136ـمع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم: يا ابن الخطاب، لتتقين الله أو

 

مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

136ـ يا ابن الخطاب، لتتقين الله أو

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: التَّقْوَى للهِ عَزَّ وَجَلَّ هِيَ وَصِيَّةُ اللهِ تعالى لِرُسُلِهِ وَللأَوَّلِينَ وَللآخِرِينَ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ﴾. فَلَو كَانَتْ هُنَاكَ خَصْلَةٌ أَنْفَعَ للعِبَادِ في العَاجِلِ وَالآجِلِ مِنْ تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَأَوْصَاهُمُ اللهُ بِهَا، فَلَمَّا أَوْصَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَانَتِ التَّقْوَى هِيَ الغَايَةُ.

تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ هِيَ وَصِيَّةُ اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ﴾. وَهِيَ وَصِيَّةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَنَا: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

وَهِيَ وَصِيَّةُ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ لِأَقْوَامِهِمْ، قَالَ تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾. وَقَالَ: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾. وَقَالَ: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾. وَقَالَ: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾. وَقَالَ: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾. وَقَالَ: ﴿وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ﴾.

وَهِيَ وَصِيَّةُ الأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ: اتَّقِ اللهَ الذي لَا بُدَّ لَكَ مِنْ لِقَائِهِ، وَلَا مُنْتَهَى لَكَ مِنْ دُونِهِ، وَهُوَ الذي يَمْلِكُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ.

تَقْوَى سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ رَبَّى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ الكِرَامَ عَلَى تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَلَى أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: اتَّقُوا اللهَ، وَأَنْ يُخَاطِبُوا أَنْفُسَهُمْ: اتَّقُوا اللهَ.

هَذَا سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام مالك عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَخَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ حَائِطَاً فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ، وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ جِدَارٌ، وَهُوَ فِي جَوْفِ الْحَائِطِ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ! بَخٍ بَخٍ؛ وَاللهِ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، لَتَتَّقِيَنَّ اللهَ، أَوْ لَيُعَذِّبَنَّكَ.

سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ خَلَعَ كُلَّ لِبَاسٍ إِلَّا لِبَاسَ التَّقْوَى، لَقَدْ كَانَ هَمُّهُ الآخِرَةَ، لَقَدْ كَانَ مِنْ تَقْوَاهُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ يَقُولُ: أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ النَّارِ، فَإِنَّ حَرَّهَا شَدِيدٌ، وَقَعْرَهَا بَعِيدٌ، وَمَقَامِعُهَا حَدِيدٌ.

وَجَاءَ في كِتَابِ أُسْدِ الغَابَةِ في مَعْرَِفَةِ الصَّحَابَةِ، أَنَّ أَعْرَابِيَّاً وَقَفَ على عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ فَقَالَ:

يَا عُمَرَ الْخَيْرِ جُزِيتَ الْجَنَّهْ   ***   اُكْسُ بُنَيَّاتِي وَأُمَّهُنَّهْ

وَكُنْ لَـنَا مِـن الزَّمَانِ جُنَّهْ   ***   أُقْـسِمُ باللهِ لَتَفْعَلَنَّهْ

قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ يَكُونُ ماذا يَا أَعْرَابِيُّ؟

قَالَ: أُقْسِمُ باللهِ لَأَمْضِيَنَّه.

قَالَ: فَإِنْ مَضَيْتَ يكون ماذا يَا أَعْرَابِيُّ؟

قَالَ:

واللهِ عَن حَـالِي لَـتُـسَأَلَنَّهْ   ***   ثمَّ تَكُونُ المَسْأَلَاتُ عَنَّهْ

والوَاقِفُ المُسْؤُولُ بَيْنَهُنَّهْ   ***   إِمَّا إلى نَـارٍ وَإِمَّـا جَـنَّـهْ

قَالَ: فَبَكَى عُمَرُ حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ بِدُمُوعِهِ، ثمَّ قَالَ: يَا غُلَامُ، أَعْطِهِ قَـمِيصِي هَذَا، لِذَلِكَ اليَوْمِ لا لِشِعْرِهِ، واللهِ مَا أَمْلِكُ قَمِيصَاً غَيْرَهُ.

وَهَكَذَا بَكَى أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ بُكَاءً شَدِيدَاً، تَأَثُّرَاً بِشِعْرِ ذَلِكَ الأَعْرَابِيِّ، الذي ذَكَّرَهُ بِمَوْقِفِ الحِسَابِ يَوْمَ القِيَامَةِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُذْكَرُ أَنَّهُ ظَلَمَ أَحَدَاً مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُ لِعَظِيمِ خَشْيَتِهِ، وَشِدَّةِ خَوْفِهِ مِنَ اللهِ تعالى تَنْهَمِرُ دُمُوعُهُ أَمَامَ كُلِّ مَنْ يُذَكِّرُهُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ.

مَا تَقُولُ لِرَبِّكَ غَدَاً إِذَا أَتَيْتَهُ؟:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَصْحَابُ التَّقْوَى للهِ عَزَّ وَجَلَّ يَلْبَسُونَ ثِيَابَ التَّقْوَى، اسْتِعْدَادَاً للرَّحِيلِ مِنْ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا إلى الآخِرَةِ، وَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾.

وَهَذَا سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ كَانَ شَدِيدَ الخَوْفِ مِنَ اللهِ تعالى، وَمِنْ شِدَّةِ خَوْفِهِ مِنَ اللهِ تعالى كَانَ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ حِسَابَاً عَسِيرَاً، فَإِذَا خُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ أَخْطَأَ في حَقِّ أَحَدٍ، طَلَبَهُ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ، فَكَانَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ يَسْأَلُهُمْ عَنْ حَاجَتِهِمْ، فَإِذَا أَفْضَوْا إِلَيْهِ بِهَا، قَضَاهَا، وَلَكِنَّهُ يَنْهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَشْغَلُوهُ بِالشَّكَاوَى الخَاصَّةً، إِذَا تَفَرَّغَ لِأَمْرٍ عَامٍّ، فَذَاتَ يَوْمٍ كَانَ مَشْغُولَاً بِبَعْضِ الأُمُورِ العَامَّةِ، جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، انْطَلِقْ مَعِي فَأَعِدْنِي عَلَى فُلانٍ (أَعِنِّي) فَإِنَّهُ قَدْ ظَلَمَنِي.

قَالَ: فَرَفَعَ الدِّرَّةَ فَخَفَقَ بِهَا رَأْسَهُ، فَقَالَ: تَدَعُونَ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ وَهُوَ مُعْرِضٌ لَكُمْ، حَتَّى إِذَا شُغِلَ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ المُسْلِمِينَ أَتَيْتُمُوهُ: أَعِدْنِي أَعِدْنِي!

قَالَ: فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَتَذَمَّرُ.

فَقَالَ: عَلَيَّ الرَّجُلُ؛ فَأَلْقَى إِلَيْه الْمِخْفَقَةَ وَقَالَ: امْتَثِلْ.

فَقَالَ: لا وَاللهِ، وَلَكِنْ أَدَعُهَا للهِ وَلَكَ.

قَالَ: لَيْسَ هَكَذَا، إِمَّا أَنْ تَدَعُهَا للهِ إِرَادَةَ مَا عِنْدَهُ، أَوْ تَدَعُهَا لِي، فَأْعَلَمَ ذَلِكَ.

قَالَ: أَدَعُهَا للهِ.

قَالَ: فَانْصَرَفَ.

ثُمَّ جَاءَ يَمْشِي حَتَّى دَخَلَ مَنْزِلَهُ وَنَحْنُ مَعَهُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَجَلَسَ فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، كُنْتَ وَضِيعَاً فَرَفَعَكَ اللهُ، وَكُنْتَ ضَالَّاً فَهَدَاكَ اللهُ، وَكُنْتَ ذَلِيلَاً فَأَعَزَّكَ اللهُ، ثُمَّ حَمَلَكَ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، فَجَاءَكَ رَجُلٌ يَسْتَعْدِيكَ فَضَرَبْتَهُ، مَا تَقُولُ لِرَبِّكَ غَدَاً إِذَا أَتَيْتَهُ؟

قَالَ: فَجَعَلَ يُعَاتِبُ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ مُعَاتَبَةً حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ. / كذا في أسد الغابة.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمْ نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى مَنْ يُذَكِّرُنَا بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ هَذَا سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ المُبَشَّرُ بِالجَنَّةِ بِشَهَادَةِ وَبِشَارَةِ الصَّادِقِ المَصْدُوقِ الذي ﴿مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾. كَانَ يَسْمَعُ لِكُلِّ مَنْ يَقُولُ لَهُ: اتَّقِ اللهَ.

جَاءَ في الاسْتِيعَابِ للحافِظِ ابْنِ عَبْدِ البَرِّ، وَفي الإِصَابَةِ للحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ: مَرَّ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَيَّامَ خِلَافَتِهِ عَلَى السَّيِّدَةِ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا وَالنَّاسُ مَعَهُ عَلَى حِمَارٍ فَاسْتَوْقَفَتْهُ طَوِيلَاً وَوَعَظَتْهُ وَقَالَتْ: هِيهَاً يَا عُمَرُ، عَهِدْتُكَ وَأَنْتَ تُسَمَّى عُمَيْرَاً في سُوقِ عُكَاظٍ تُرَوِّعُ الصِّبْيَانَ بِعَصَاكَ، فَلَمْ تَذْهَبِ الأَيَّامُ حَتَّى سُمِّيتَ عُمَرَ، ثُمَّ لَمْ تَذْهَبِ الأَيَّامُ حَتَّى سُمِّيتَ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ! فَاتَّقِ اللهَ في الرَّعِيَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ خَافَ الوَعِيدَ قَرُبَ عَلَيْهِ البَعِيدُ، وَمَنْ خَافَ المَوْتَ خَشِيَ الفَوْتَ؛ وَهُوَ وَاقِفٌ يَسْمَعُ كَلَامَهَا.

فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، حَبَسْتَ النَّاسَ عَلَى هَذِهِ العَجُوزِ؟

فَقَالَ: وَيْلَكَ تَدْرِي مَنْ هِيَ؟ هَذِهِ امْرَأَةٌ سَمِعَ اللهُ شَكْوَاهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، هَذِهِ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ التي أَنْزَلَ اللهُ فِيهَا: ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلى اللهِ﴾. فَعُمَرُ وَاللهِ أَحَقُّ أَنْ يَسْمَعَ لَهَا، وَاللهِ لَوْ أَنَّهَا وَقَفَتْ إلى اللَّيْلِ مَا فَارَقْتُهَا إِلَّا للصَّلَاةِ ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَيْهَا.

اللَّهُمَّ أَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 23/ صفر الخير /1440هـ، الموافق: 1/ تشرين الثاني / 2018م