625ـ خطبة الجمعة: الربا من أخطر البلايا (2)

 

625ـ خطبة الجمعة: الربا من أخطر البلايا (2)

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فَيَا عِبَادَ اللهِ لَقَدْ أُمِرْنَا بِالتَّوْحِيدِ وَالطَّاعَةِ، وَنُهِينَا عَنِ المَعَاصِي وَالمُخَالَفَاتِ، فَمَنِ الْتَزَمَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِلَّا فَالنَّارُ، وَالسَّعِيدُ مَنْ فَازَ بِرِضَا مَوْلَاهُ، وَزُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ، وَالشَّقِيُّ مَنْ عَـصَى وَتَمَرَّدَ وَخَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ وَتَمَرَّدَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَتَجَرَّأَ عَلَى المُحَرَّمَاتِ، وَطُرِدَ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتعالى.

لَقَدْ حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ، وَالنَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، فَمَنْ صَبَرَ عَلَى الطَّاعَاتِ وَعَنِ المَعَاصِي كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالفَلَاحِ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ، وَمَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ الأَمَانِيَّ، كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ وَالحِرْمَانِ وَشَدِيدِ العِقَابِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبَاً، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبَاً، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ».

وروى الإمام أحمد وأبو داود عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا».

فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟

قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ المَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ».

فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟

قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ». وَحَبُّ الدُّنْيَا تَمَكَّنَ في القَلْبِ، مَعَ كَرَاهِيَةِ المَوْتِ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ تعالى.

وَعِنْدَمَا كَانَ وَاقِعُنَا كَمَا ذَكَرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ظَهَرَ الفَسَادُ في البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.

﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِمَّا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ، وَكَانَتْ سَبَبَاً لِظُهُورِ الفَسَادِ في البَرِّ وَالبَحْرِ أَكْلُ الرِّبَا وَإِطْعَامُهُ، هَذِهِ الكَبِيرَةُ المُهْلِكَةُ وَالمُوبِقَةُ تَمَكَّنَتْ في الأُمَّةِ، حَتَّى صَارَتِ الكَثِيرُ مِنَ المُعَامَلَاتِ يَكُونُ فِيهَا الرِّبَا وَأَهْلُهَا لَا يَشْعُرُونَ، وَنَسِيَ هَؤُلَاءِ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا﴾. وَقَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنَ الرِّبَا، إِلَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ إِلَى قِلَّةٍ» رواه ابن ماجه عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

مَعَ تَوَعُّدِهِمْ بِالخُلُودِ في نَارِ جَهَنَّمَ إِذَا لَمْ يَتُوبُوا إلى اللهِ تعالى مِنَ الرِّبَا، قَالَ تعالى: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.

صُوَرٌ مِنَ التَّعَامُلِ بِالرِّبَا:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ صُوَرِ التَّعَامُلِ بِالرِّبَا، وَالتي اسْتَحْكَمَتْ في كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ:

أولاً: بَيْعُ العِمْلَاتِ بِدُونِ تَقَابُضٍ  كبَيْعِ ذَهَبٍ قَدِيمٍ بِذَهَبٍ جَدِيدٍ مُتَسَاوٍ في الوَزْنِ مَعَ دَفْعِ الفَرْقِ، أَو بَيْعُ الذَّهَبِ لِأَجَلٍ، أَو بِالتَّقْسِيطِ.

ثانياً:بَيْعُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ المَدِينِ رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَ لَيْرَةٍ، فَقَالَ لَهُ: أَنَا أَشْتَرِي مِنْكَ هَذَا الدَيْنَ بِتِسْعِمِائَةِ لَيْرَةٍ، وَيَسْتَرِدُّهَا مِنَ المَدِينِ أَلْفْاً.

ثَالِثَاً: بَيْعُ الوَفَاءِ هُوَ بَيْعٌ بِشَرْطٍ، وَهُوَ أَنَّ البَائِعَ مَتَى رَدَّ الثَّمَنَ يَرُدُّ المُشْتَرِي المَبِيعَ لَهُ، وَلَا يَحِقُّ للمُشْتَرِي أَنْ يَبِيعَ أَو يَهَبَ مَا اشْتَرَاهُ لِغَيْرِ البَائِعِ، وَهَذَا تَحَايُلٌ عَلَى الرِّبَا؛ وَقَالَ بَعْضُ الفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا البَيْعِ: اخْتَرَعَهُ أَكَلَةُ الرِّبَا.

رابعاً: بَيْعُ العِينَةِ هُوَ أَنْ يَبِيعَ رَجُلٌ لِآخَرَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، أَو أَقْسَاطٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ قَبْلَ دَفْعِ الثَّمَنِ بِثَمَنٍ نَقْدٍ أَقَلَّ مِمَّا اشْتَرَاهُ.

خامساً: بَيْعُ مَا لَا يَمْلِكُ لَقَدْ نَهَى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُبَاعَ السِّلْعَةُ حَيْثُ تَبْتَاعُ حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إلى رِحَالِهِمْ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» رواه الإمام أحمد عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: الرِّبَا حَرَامٌ بِنَصِّ القُرْآنِ الكَرِيمِ، وَبِنَصِّ الحَدِيثِ الـشَّرِيفِ، وَحَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الأُمَّةِ، وَلَا تُحِلُّهُ فَتْوَى يُقَالُ عَنْهَا فَتْوَى رَسْمِيَّةٌ أَو غَيْرُ رَسْمِيَّةٍ، فَكُلُّ فَتْوَى خَالَفَتِ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَتْوَى بَاطِلَةٌ، يَحْرُمُ العَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا، وَكَذَلِكَ لَا تُصْبِحُ حَلَالَاً وَلَو كَانَتْ بِرِضَا الطَّرَفَيْنِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: في الخِتَامِ أَقُولُ: لَا تَغْتَرُّوا بِنِعْمَةِ الأَمْنِ، وَلَا بِزَهْرَةِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزَخَارِفِهَا، وَلَا بِكَثْرَةِ الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ، وَلَا تَغْتَرُّوا بِنِعْمَةِ الصِّحَّةِ في الأَبْدَانِ، وَلَا بِمَا خَوَّلَكُمُ اللهُ مِنْ نِعَمٍ إِذَا كُنْتُمْ مُـصِرِّينَ عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ تعالى، روى الإمام أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ».

ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾.

تَذَكَّرُوا يَا عِبَادَ اللهِ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾. وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾.

يَا مَنْ سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ أَكْلَ الرِّبَا وَإِطْعَامَ الرِّبَا، وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ، اسْتَحْضِرْ قَوْلَ مَنْ آمَنْتَ بِهِ رَبَّاً: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾.

اللَّهُمَّ أَغْنِنَا بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَبِطَاعَتِكَ عَنْ مَعْصِيَتِكَ، وَبِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**      **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 17/ صفر الخير /1440هـ، الموافق: 26/ تشرين الأول / 2018م