27ـ بر الوالدين : العدل بين الأبناء

 

بر الوالدين

27ـ العدل بين الأبناء

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِمَّا يُسَاعِدُ عَلَى بِرِّ الوَالِدَيْنِ وَاحْتِرَامِهِمَا وَتَقْدِيرِهِمَا، مُسَاوَاةُ الوَالِدَيْنِ بَيْنَ أَوْلَادِهِمَا في العَطِيَّةِ، وَإِظْهَارُ المَحَبَّةِ وَالمَوَدَّةِ، فَلَا يُفَرِّقَانِ بَيْنَ الأَوْلَادِ، بِأَنْ يَمْدَحَا وَاحِدَاً مِنْهُمْ، وَيُكْثِرَا الشِّكَايَةَ مِنَ الآخَرِ، وَيُقَدِّمَا وَاحِدَاً عَلَى غَيْرِهِ ـ خَاصَّةً الذُّكُورَ عَلَى الإِنَاثِ ـ فَإِنَّ هَذَا عَدَا عَنْ كَوْنِهِ يُورِثُ الحَسَدَ في نُفُوسِ الأَوْلَادِ وَالحِقْدَ بَيْنَهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ يَجْعَلُ في نُفُوسِ الأَبْنَاءِ شَيْئَاً تُجَاهَ وَالِدِيهِمْ، حَتَّى لَو كَانَ أَحَدُهُمْ مُقَدَّمَاً عَلَى الآخَرِينَ في الأَخْلَاقِ أَو المُعَامَلَةِ أَو البِرِّ.

وَمَا قِصَّةُ إِخْوَةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَيْدِهِمْ لَهُ وَإِلْقَائِهِ في الجُبِّ، وَادِّعَائِهِمْ أَنَّ الذِّئْبَ قَدْ أَكَلَهُ، إِلَّا مِنْ بَابِ الحَسَدِ.

«أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟»:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَجِبُ عَلَى الأَبَوَيْنِ تُجَاهَ الأَوْلَادِ التَّرْبِيَةُ وَالحِمَايَةُ وَالتَّوْجِيهُ حَتَّى تَسْتَقِيمَ ثَمَرَةُ الفُؤَادِ، وَيُخْرِجَانِ للمُجْتَمَعِ رَجَالَاً صَالِحِينَ، وَفَتَيَاتٍ صَالِحَاتٍ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْهُمْ» رواه الإمام مسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا. وَالسَّائِلُ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ هُوَ اللهُ تعالى.

وَنَتِيجَةُ هَذِهِ المَسْؤُولِيَّةِ، إِمَّا نَجَاحٌ وَفَلَاحٌ وَفَوْزٌ وَسَعَادَةٌ وَإِبْرَاءُ ذِمَّةٍ في الآخِرَةِ، وَثَمَرَتُهَا جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ للمُتَّقِينَ.

وَإِمَّا نَتِيجَتُهَا خِذْلَانٌ وَخَيْبَةٌ وَخُسْرَانٌ وَحَسَرَاتٌ وَنَدَمٌ في الآخِرَةِ، وَنَتِيجَتُهَا النَّارُ وَبِئْسَ المَصِيرُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا أَرَدْنَا بِرَّ أَبْنَائِنَا وَاحْتِرَامَهُمْ وَتَقْدِيرَهُمْ لَنَا عَلَيْنَا أَنْ نُحْسِنَ التَّرْبِيَةَ وَالتَّعَامُلَ مَعَهُمْ، وَمِنْ حُسْنِ التَّرْبِيَةِ وَالتَّعَامُلِ مَعَهُمْ العَدْلُ وَالمُسَاوَاةُ بَيْنَ الأَبْنَاءِ ذُكُورَاً وَإِنَاثَاً، لِأَنَّ الجَوْرَ وَالظُّلْمَ يَدْفَعُ الأَبْنَاءَ للعُقُوقِ وَعَدَمِ البِرِّ.

روى الإمام مسلم عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ.

فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي.

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟».

قَالَ: لَا.

قَالَ: «اتَّقُوا اللهَ، وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ».

فَرَجَعَ أَبِي، فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟».

قَالَ: بَلَى.

قَالَ: «فَلَا إِذَاً».

وروى الإمام البخاري عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَأَلَتْ أُمِّي أَبِي بَعْضَ المَوْهِبَةِ لِي مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَوَهَبَهَا لِي، فَقَالَتْ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَنَا غُلَامٌ، فَأَتَى بِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْنِي بَعْضَ المَوْهِبَةِ لِهَذَا. قَالَ: «أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ؟». قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأُرَاهُ، قَالَ: «لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ». وَقَالَ أَبُو حَرِيزٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ: «لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ العَطَاءَ للأَبْنَاءِ دُونَ البَنَاتِ، أَو لِوَلَدٍ دُونَ وَلَدٍ جَوْرٌ، كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ، وَلَو كَانَ بَعْضُهُمْ عَاقَّاً، وَغَيْرَ مُحْسِنٍ، اعْدِلُوا بَيْنَهُمْ وَلَو كَانَ بَعْضُهُمْ مُسِيئَاً، وَلَا تُفَكِّرُوا في عِقَابِ العَاقِّ بِالحِرْمَانِ مِنْ حَقِّهِ، فَالعُقُوقُ لَا يَمْنَعُ مِنَ الحُقُوقِ، فَإِنْ عَصَى وَلَدُكَ اللهَ تعالى فِيكَ، فَلَا تَعْصِ اللهَ تعالى أَنْتَ فِيهِ، لِأَنَّ الذي يُعَاقِبُ عَلَى العُقُوقِ هُوَ اللهُ تعالى.

اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ، وَلَو كَانَ بَعْضُهُمْ عَاقَّاً، حَتَّى لَا تَزِيدُوا عُقُوقَهُ عَقُوقَاً، وَحَتَّى لَا تَكُونُوا سَبَبَاً في زَرْعِ الحِقْدِ وَالبَغْضَاءِ في قَلْبِهِ تُجَاهَ إِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ.

لَا تَمْنَعُوا العَاقَّ مِنْ حَقِّهِ، لَعَلَّ العَطَاءَ يُصْلِحُهُ، وَانْطَلِقُوا مَعَ الوَلَدِ العَاقِّ أَو البِنْتِ العَاقَّةِ مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾.

أَعْطُوا العَاقَّ، وَأَكْثِرُوا لَهُ مِنَ الدُّعَاءِ، لَعَلَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُصْلِحُهُ، أَعْطُوا العَاقَّ، لِأَنَّ العَطَاءَ يَزْرَعُ الإِحْسَانَ، وَاحْذَرُوا مِنَ المَنْعِ فَإِنَّ المَنْعَ يُوغِرُ الصَّدْرَ.

وَإِعْطَاؤُكُمْ للعَاقِّ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ إِيمَانِكُمْ، وَعَلَى قُوَّةِ شَخْصِيَّتِكُمْ، وَدَلِيلٌ عَلَى تَزْكِيَةِ نُفُوسِكُمْ، وَدَلِيلٌ عَلَى كَمَالِكُمْ، وَدَلِيلٌ عَلَى سَلَامَةِ صُدُورِكُمْ، وَأَنَّكُمْ لَا تُقَابِلُونَ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ، بَلْ بِالعَفْوِ وَالصَّفْحِ، لِتَنَالُوا الحَظَّ الوَافِرَ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: العَدْلُ بَيْنَ الأَوْلَادِ أَمْرٌ مُهِمٌّ جِدَّاً، وَخَاصَّةً في هَذِهِ الآوِنَةِ حَيْثُ تَفَشَّى الجَهْلُ في دِينِ اللهِ تعالى، وَتَفَشَّى عُقُوقُ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ، وَتَفَشَّى في المُجْتَمَعِ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ.

إِنَّ تَقْدِيمَ وَاحِدٍ مِنَ الأَبْنَاءِ دُونَ الآخَرِ، وَالعَطَاءَ لِبَعْضِهِمْ دُونَ الآخَرِ طَامَّةٌ كُبْرَى لَا يَعْلَمُ نَتَائِجَهَا إِلَّا اللهُ.

مَحَبَّةُ سَيِّدِنَا يَعْقُوبَ لِسَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَمَا شَعَرَ بِهَا الأَبْنَاءُ أَوْغَرَ ذَلِكَ صُدُورَهُمْ عَلَى أَخِيهِمْ وَأَبِيهِمْ، وَقَالُوا: ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.

ثُمَّ أَدَّى ذَلِكَ إلى أَنْ يُفَكِّرُوا في قَتْلِ أَخِيهِمْ، فَقَالُوا: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضَاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمَاً صَالِحِينَ﴾. إِذَا كَانَتْ هَذِهِ المَحَبَّةُ فَقَطْ، فَكَيْفَ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ المَحَبَّةِ وَالعَطَاءِ للبَارِّ، وَمَنَعَ العَاقَّ مِنَ العَطِيَّةِ مَعَ الكَرَاهِيَةِ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ تَفْضِيلَ بَعْضِ الأَبْنَاءِ يُفَرِّقُ الأُسْرَةَ، وَيَقْطَعُ الوُدَّ، وَيَعْزِلُ الأَوْلَادَ عَنْ أَبِيهِمْ وَأُمِّهِمْ؛ مِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَدِيدَ الحِرْصِ عَلَى المُسَاوَاةِ بَيْنَ الأَبْنَاءِ في العَطِيَّةِ، وفي المُعَامَلِةِ، روى البزار عَن أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنهُ؛ أَنَّ رَجُلَاً كَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ ابْنٌ لَهُ فَقَبَّلَهُ وَأَقْعَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ، وَجَاءَتْهُ بُنَيَّةٌ لَهُ فَأَجْلَسَهَا بَيْنَ يَدَيْه.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا سَوَّيْتَ بَيْنَهُمَا».

لِنَحْرِصْ عَلَى تَمَاسُكِ الأَبْنَاءِ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ المُسَاوَاةِ في العَطِيَّةِ وَالتَّعَامُلِ، وَاسْتَحْضِرُوا قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «سَوُّوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ، فَلَوْ كُنْتُ مُفَضِّلَاً أَحَدَاً لَفَضَّلْتُ النِّسَاءَ» رواه الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 3/ ربيع الأول /1440هـ، الموافق: 11/ تشرين الثاني / 2018م