89ـ رحمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للعالم

 

من كتاب سيدنا محمد رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

89ـ رحمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للعالم

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: رَحْمَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للعَالَمِ:

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾.

فَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَسُولُ الرَّحْمَةِ الذي أَرْسَلَهُ اللهُ تعالى رَحْمَةً لِجَمِيعِ العَالَمِينَ، رَحْمَةً للمُؤْمِنِينَ، وَرَحْمَةً للكَافِرِينَ، وَرَحْمَةً للمُنَافِقِينَ، وَرَحْمَةً لِجَمِيعِ بَنِي الإِنْسَانِ: الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَرَحْمَةً للطَّيْرِ وَالحَيَوَانِ، فَهُوَ رَحْمَةٌ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ خَلْقِ اللهِ تعالى.

أَمَّا رَحْمَتُهُ للمُؤْمِنِينَ: فَبِهِدَايَتِهِمْ إلى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَبِاهْتِمَامِهِ بِمَا يُصْلِحُ لَهُمْ أَمْرَ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَتَحْذِيرِهِ إِيَّاهُمْ مِمَّا يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ أَمْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ رَأْفَةً وَرَحْمَةً بِهِمْ، كَمَا قَالَ اللهُ تعالى: ﴿بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

وَالرَّأْفَةُ تَقْتَضِي إِبْعَادَ كُلِّ شَرٍّ وَفَسَادٍ وَضَرَرٍ، وَالرَّحْمَةُ تَقْتَضِي جَلْبَ كُلِّ خَيْرٍ وَصَلَاحٍ وَنَفْعٍ.

وَلَقَدْ أَقَامَهُ اللهُ تعالى في رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ للمُؤْمِنِينَ: أَنَّهُ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، قَالَ تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفَاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورَاً﴾. الآيَةَ، يَعْنِي أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَرْأَفُ بِهِمْ وَأَعْطَفُ عَلَيْهِمْ وَأَنْفَعُ لَهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَحَقَّ بِهِمْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَحُكْمُهُ أَنْفَذُ عَلَيْهِمْ مِنْ حُكِمْ أَنْفُسِهِمْ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَبْذُلُوهَا دُونَهُ، وَيَجْعَلُوهَا فِدَاءَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وَلِذَا كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُعْلِنُ هَذِهِ الأَوْلَوِيَّةَ في خُطَبِهِ وَمُجْتَمَعَاتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ في بَحْثِ كَلَامِهِ وَخُطَبِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وَكَمَا رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾. فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالَاً فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا، فَإِنْ تَرَكَ دَيْنَاً، أَوْ ضَيَاعَاً فَلْيَأْتِنِي، فَأَنَا مَوْلَاهُ».

وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالً: «أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ وَتَرَكَ دَيْنَاً فَإِلَيَّ، وَمَنْ تَرَكَ مَالَاً، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ».

وَأَمَّا رَحْمَتُهُ للمُنَافِقِينَ: فَبِالأَمَانِ مِنَ القَتْلِ وَالسَّبْيِ، نَظَرَاً لِظَاهِرِ إِسْلَامِهِمْ في الدُّنْيَا.

وَأَمَّا رَحْمَتُهُ للكُفَّارِ: فَبِرَفْعِ عَذَابِ الاسْتِئْصَالِ عَنْهُمْ في الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَنَّ الأُمَمَ السَّابِقَةَ، كَانَتْ إِذَا أَرْسَلَ اللهُ تعالى فِيهِمْ رَسُولَاً فَكَذَّبُوهُ وَكَفَرُوا بِهِ جَاءَهُمُ العَذَابُ فَعَمَّهُمْ، كَمَا قَصَّ اللهُ تعالى مِنْ أَخْبَارِ قَوْمِ: نُوحٍ، وَعَادٍ، وَثَمُودَ، وَقَوْمِ لُوطٍ، وَغَيْرِهِمْ، كَيْفَ أَحَاطَ بِهِمُ العذَاَبُ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ.

وَأَمَّا كُفَّارُ هَذِهِ الأُمَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ: فَقَدْ رَفَعَ اللهُ عَنْهُمُ العَذَابَ العَامَّ الذي يَسْتَأْصِلُهُمْ، كَمَا اسْتَأْصَلَ وَعَمَّ الكُفَّارَ مِنَ الأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَذَلِكَ تَكْرِمَةً لِهَذَا الرَّسُولِ الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي أَرْسَلَهُ اللهُ تعالى رَحْمَةً للعَالَمِينَ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا في قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾. قَالَ: مَنْ آمَنَ تَمَّتْ لَهُ الرَّحْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ عُوفِيَ مِمَّا كَانَ يُصِيبُ الْأُمَمَ مِنْ عَاجِلِ الدُّنْيَا مِنَ الْعَذَابِ ـ أَيْ: العَامِّ ـ مِنَ المَسْخِ وَالخَسْفِ وَالقَذْفِ. اهـ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ في الدَّلَائِلِ، وَابْنُ مَرْدَوِيه وَغَيْرُهُمْ، كَمَا في تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ وَغَيْرِهِ.

وَأَمَّا أَخْذُ بَعْضِ كُفَّارِ هَذِهِ الأُمَّةِ بِالعَذَابِ، فَهُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ.

وَهَذَا المَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تعالى لَا يُعَذِّبُ كُفَّارَ هَذِهِ الأُمَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ عَذَابَاً عَامَّاً مُسْتَأْصِلَاً كَالكُفَّارِ قَبْلَهُمْ، هَذَا المَعْنَى هُوَ الذي جَرَى عَلَيْهِ وَفَهِمَهُ مُحَقِّقُو العُلَمَاءِ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾. أَيْ: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ مُرْسَلٌ فِيهِمْ، وَهَذَا العَذَابُ المَنْفِيُّ هُوَ العَذَابُ العَامُّ الطَّامُّ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَمَّا العَذَابُ الخَاصُّ بِبَعْضٍ مِنْهُمْ، أَو المُرْسَلُ عَلَى أَطْرَافٍ مِنْهُمْ، فَهُوَ وَاقِعٌ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى في الآيَةِ التَّالِيَةِ لِتِلْكَ الآيَةِ: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا المُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ الآيَةَ. وَهَذَا طَرِيقُ الجَمْعِ بَيْنَ الآيَتَيْنِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ المُحَقِّقُونَ.

فَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَسُولُ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً، فَقَالَ: «أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالمُقَفِّي (أَيْ: آخِرُ الأَنْبِيَاءِ وَخَاتَمُهُمْ) وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ».

وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ عَلَى المُشْرِكِينَ.

قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانَاً، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً».

بَلْ هُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الرَّحْمَةُ المُهْدَاةُ التي أَهْدَاهَا اللهُ تعالى للعَالَمِ:

كَمَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ في الدَّلَائِلِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ».

وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: «بُعِثْتُ رَحْمَةً مُهْدَاةً» انْظُرْ شَرْحَ المَوَاهِبِ للزَّرْقَانِيِّ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 7/ربيع الثاني /1440هـ، الموافق: 14/ كانون الأول / 2018م