20ـ كلمة شهر شوال1429هـ: آثار الذنوب

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فها هي الليلة الأولى من ليالي شوال، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبَّل منا الصلاة والصيام والقيام وتلاوة القرآن، وأن يجعلنا من عتقاء شهر رمضان.

أيها الإخوة الكرام: يجب علينا أن ندقِّق على أنفسنا، وأن نحاسبها محاسبة الشريك الشحيح لشريكه الشحيح، حتى نسلم بإذن الله تعالى، يجب علينا أن ننظر إلى أنفسنا قبل شهر رمضان كيف كنا؟ وفي شهر رمضان كيف أصبحنا؟ فإن وجدنا أنفسنا في شهر رمضان وُفِّقنا للطاعات وترك المعاصي والمنكرات فهذا من فضل الله عز وجل علينا، فلنداوم على الاستقامة، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا معاذ رضي الله عنه: (عَرَفْتَ فَالْزَمْ)، وذلك عندما سأله النبي صلى الله عليه وسلم: (كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثُ؟) قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (انْظُرْ مَا تَقُولُ؟ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟ فَقَالَ: قَدْ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، وَأَسْهَرْتُ لِذَلِكَ لِيَلِي، وَاطْمَأَنَّ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (يَا حَارِثُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ) ثَلاثًا. رواه ابن أبي شيبة والطبراني.

فعلينا أيها الإخوة أن نحذر المعاصي بعد شهر رمضان، لأنها والله هي التي أفسدت القلوب، وقتلت الشعوب، وخرَّبت البيوت، وفرَّقت بين الأزواج، وبين الآباء والأبناء.

وبالذنوب حُبست الأرزاق، وقست القلوب، وجفَّ الدمع في العيون، ورُدَّ الدعاء، وتمزَّقت الأسر، ودبَّ الخوف والفزع في القلوب، وصارت الحياة شقاء وضنكاً، حتى أصبح الرجل يتمنى الموت فلم يجده، هذا فضلاً عن سوء العاقبة يوم القيامة إذا لم يتب العاصي توبة صادقة.

وما اجترأ العبد على معصية الخالق جل جلاله إلا لجهله الله تعالى، وصدق الله تعالى القائل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}. فهذا سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه كما جاء في الزهد، يقول الإمام أحمد: دخل أبو بكر رضي الله عنه مزرعة رجل من الأنصار، فرأى طائراً يطير من شجرة فبكى وجلس، فقال له الصحابة رضي الله عنهم: مالك يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: طوبى لهذا الطائر، يشرب الماء، ويأكل من الثمر، ثم يموت لا حساب ولا عذاب، يا ليتني كنت طائراً!

هذا كلام الصديق، هذه أمنيته، وهو المبشَّر بالجنة حيث يُدعى إلى الجنة من أبوابها الثمانية، كما جاء في الحديث الشريف، قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ)، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ).

إذا كان الصديق رضي الله عنه وهو السبَّاق إلى الإسلام، وهو السبَّاق بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم إلى فعل الطاعات والقربات، وما سابقه أحد إلا وسبقه الصديق رضي الله عنه، كما جاء في الحديث: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا)؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: (فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً)؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَا، قَالَ: (فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا)؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: (فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا)؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ) رواه مسلم، إذا كان الصديق هكذا فماذا نقول نحن؟

لقد هانت الذنوب على الكثير من الناس، حتى أصبح البعض لا يراها إلا كذبابة حطَّت على أنفه ثم قال لها هكذا، كما جاء في الحديث: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ فِي أَصْلِ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ وَقَعَ عَلَى أَنْفِهِ قَالَ بِهِ هَكَذَا فَطَارَ) رواه مسلم والترمذي واللفظ له.

ولكن كل هذا لا يجعلنا في بأس إن شاء الله تعالى، مهما بعدت الشُّقة بيننا وبين أصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين التابعين والأولياء والصالحين إذا سرنا على خطاهم ولو كان السير بطيئاً، قال أحد التابعين لسيدنا سفيان الثوري رضي الله عنه: يا أبا سعيد، ذهب القوم ـ يعني الصحابة رضي الله عنهم ـ على خيول جادة ونحن نذهب على حمير.

فقال سيدنا سفيان الثوري رضي الله عنه: والله لَتَصِلَنَّ بالقوم إذا سلكت ما سلكوا، ولو كنّا على الحمير، بشرط أن تبقى على الخط، وعلى الاتجاه، وعلى الطريق الذي ساروا عليه.

نعم لا نيأس ولا نقنط وإن قصَّرنا ولنا قلب مجبول على محبة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنا بشارة النبي صلى الله عليه وسلم عندما دخل أعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: (وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا)؟ قَالَ: لا شَيْءَ، إِلا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) رواه البخاري ومسلم.

اللهم إني أتشبَّه بقول الإمام الشافعي رضي الله عنه عندما قال بتواضع:

أحب الصالحين ولست منهم *** لعلي أن أنال بهم شفاعة

وأكره من بضاعته المعاصي *** ولو كنا سواءً في البضاعة

وأنا يا رب أقولها بحقٍّ:

أحب الصالحين ولست منهم *** لعلي أن أنال بهم شفاعة

وأكره من بضاعته المعاصي *** ولو كنا سواءً في البضاعة

وأنت الشهيد على ذلك.

أيها الإخوة الكرام: والله ما رأيت شيئاً أحقر من المعصية، وما رأيت شيئاً لا يُنسى مثل المعصية، والله إن ألم المعصية كبير، فكم من قلق ويأس وقنوط جاء بعد المعصية؟ تذهب لذة المعصية إن وجدت وتبقى مرارتها، لأن المعصية لها أثر إن شاء العبد وإن أبى.

الأثر الأول للمعاصي: العيش الضنك:

قال تبارك وتعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا}، فالأعراض عن ذكر الله، والإعراض عن الأحكام الشرعية واللامبالاة فيها تجعل حياة العاصي في ضيق وهمٍّ وغمٍّ وأسى ولوعة وحزن هذا في الدنيا، أما في الآخرة فيحشر أعمى والعياذ بالله تعالى، ونتيجته لا يعلمها إلا الله تعالى.

الأثر الثاني للمعاصي: ضيق الرزق وحرمانه:

يقول ابن عباس رضي الله عنهما: إن للحسنة نوراً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعةً في الرزق، ومحبةً في الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمةً في القلب، وضيقاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق. اهـ.

فالذنوب تذهب بالأرزاق إما بذهابها أصلاً، وإما بذهاب بركتها، ألم يقل مولانا جل جلاله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُون}، ولكنهم ما آمنوا فأغلق عليهم أبواب البركة، فنزعت البركة من أرزاقهم، فهي قليلة مهما كثرت والعباذ بالله تعالى.

الأثر الثالث للمعاصي: قسوة القلب:

قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ}، فنقض العهد والميثاق سبب من أسباب قسوة القلب التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ منها: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَهَا) رواه مسلم.

وقسوة القلب من الكبائر، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اطلبوا المعروف من رحماء أمتي تعيشوا في أكنافهم، ولا تطلبوه من القاسية قلوبهم فإن اللعنة تنزل عليهم) رواه الحاكم.

والله تعالى يقول في قاسي القلب: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ}.

يقول مالك بن دينار رحمه الله: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم.

الأثر الرابع للمعاصي: نسيان العلم:

قال ابن الجلاد: نظرت منظراً لا يحل لي، فقال لي أحد الصالحين: أتنظر إلى الحرام؟ والله لتجدنَّ إِرْبَه ولو بعد حين، فنسيت ما حفظت من القرآن العظيم.

ويقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي *** فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني بأن العلم نور *** ونور الله لا يهدى لعاصي

وقال الإمام مالك للإمام الشافعي رحمهما الله تعالى: يا محمد، إني أرى عليك نجابة، وإني أرى لك إمامة في هذا الدين، فإياك والمعاصي فإنها تتلف العلوم

الأثر الخامس للمعاصي: البغض في قلوب الخلق:

يقول عليه الصلاة والسلام: (إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ فُلانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ تَنْزِلُ لَهُ الْمَحَبَّةُ فِي أَهْلِ الأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا}. وَإِذَا أَبْغَضَ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنِّي أَبْغَضْتُ فُلانًا، فَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ تَنْزِلُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الأَرْضِ) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: لو أطاع طائع ربه وراء سبعة أبواب لأخرج الله أثر طاعته للناس، ولو عصى اللهَ عاصٍ وراء سبعة أبواب لأخرج الله أثر معصيته للناس.

أسأل الله تعالى أن يعتق رقابنا من النار، ورقاب أصولنا وفروعنا وأزواجنا كذلك وسائر المسلمين. {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار}، ونسألك يا ربنا الفوز الذي أشرتَ إليه بقولك: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور}. آمين. آمين. آمين.

أخوكم أحمد النعسان

لا تنسوني من دعوة صالحة

**     **     **