30ـ بر الوالدين : أيها الآباء الأبناء

 

بر الوالدين

30ـ أيها الآباء الأبناء

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِن أَهَمِّ عَوَامِلِ بِرِّ الوَلِدِ بِوَالِدَيْهِ كَوْنُ الوالِدِ نَفْسِهِ كَانَ بَارَّاً بِوَالِدَيْهِ مِنْ قَبْلُ، فَيَقْذِفُ اللهُ سُبْحَانَهُ وتعالى في قُلُوبِ الأَبْنَاءِ أَنْ يَبِرُّوا بِوَالِدِهِمُ الذي كَانَ بَارَّاً بِوَالِدَيْهِ، لِيَكُونَ الجَزَاءُ مِن جِنْسِ العَمَلِ ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾.

وَقَدْ وَرَدَ هَذَا المَعْنَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، روى الحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عِفُّوا عَنْ نِسَاءِ النَّاسِ تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ، وَبَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ».

العُقُوقُ دَيْنٌ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَعْلَمْ جَمِيعَاً بِأَنَّ العُقُوقَ دَيْنٌ، فَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ، فَمَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ عَقَّهُ أَبْنَاؤُهُ عِنْدَمَا يَكُونُ في أَمَسِّ الحَاجَةِ لَهُمْ في كِبَرِهِ، فَلَا يَجِدُ مِنْهُمْ إِلَّا اللَّعْنَ وَالشَّتْمَ وَالضَّرْبَ وَالطَّرْدَ، بَلْ وَقَدْ يَقْذِفُونَ بِهِ في دَارِ العَجَزَةِ حَتَّى يَلْقَى حَتْفَهُ، وَهَذَا هُوَ الجَزَاءُ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِمَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ أَنْ يَعُقَّهُ أَبْنَاؤُهُ.

أَيُّهَا الآبَاءُ الأَبْنَاءُ: اعْلَمُوا بِأَنَّ العُقُوقَ مُحَرَّمٌ شَرْعَاً، وَصَاحِبُهُ مَمْقُوتٌ، وَمُتَوَعَّدٌ بِالعَذَابِ في الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ، بَعِيدٌ عَنِ الجَنَّةِ.

العَاقُّ قَلْبُهُ قَاسٍ، وَهُوَ جَاحِدٌ وَنَاكِرٌ إِحْسَانَ الوَالِدَيْنِ، شَقِيُّ النَّفْسِ، خَبِيثُ الطَّبْعِ، مُتَحَجِّرُ الضَّمِيرِ، سَيِئُ الأَدَبِ مَعَ وَالِدَيْهِ، يَتَحَبَّبُ إلى النَّاسِ، وَيَتَنَكَّرُ لِوَالِدَيْهِ، يَبْتَسِمُ في وُجُوهِ الآخَرِينَ، وَيَعْبِسُ في وَجْهِ وَالِدَيْهِ، وَيَخْتَارُ الكَلَامَ القَاسِيَ لِوَالِدَيْهِ، وَيَنْظُرُ إِلَيْهِمَا بِعَيْنِ الجُحُودِ، يَمُدُّ رِجْلَهُ في حَـضرَةِ وَالِدَيْهِ، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ في حَضْرَتِهِمَا، يُنَادِي عَلَيْهِمَا بِاسْتِخْفَافٍ وَبِدُونِ أَدَبٍ.

أَيُّهَا الآبَاءُ الأَبْنَاءُ: اعْلَمُوا بِأَنَّ دَمْعَةَ الأَبَوَيْنِ المَظْلُومَيْنِ بِسَبَبِ ظُلْمِ الأَبْنَاءِ تَقَعُ مِنَ اللهِ بِمَكَانٍ، وَيَجْعَلُ اللهُ تعالى تِلْكَ الدَّمْعَةَ عَلَى العَاقِّينَ نَارَاً وَوَبَالَاً، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾.

وَتَذَكَّرُوا قَوْلَهُ تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾؟

وَتَذَكَّرُوا قَوْلَهُ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾.

أَيُّهَا الآبَاءُ الأَبْنَاءُ: الحَيَاةُ دَيْنٌ وَوَفَاءٌ، روى البيهقي في الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْبِرُّ لَا يَبْلَى، وَالْإِثْمُ لَا يُنْسَى، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ، فَكُنْ كَمَا شِئْتَ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ».

فَوَائِدُ بِرِّ الوَالِدَيْنِ:

أَيُّهَا الآبَاءُ الأَبْنَاءُ: اعْلَمُوا بِأَنَّ بِرَّ الوَالِدَيْنِ لَهُ نَتَائِجُ طَيِّبَةٌ، وَثِمَارٌ يَافِعَةٌ، مِنْ جُمْلَتِهَا:

أولاً: مَا ذَكَرْنَاهُ بِدَايَةً، مَنْ بَرَّ أَبَاهُ وَأُمَّهُ بَرَّهُ أَبْنَاؤُهُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَبَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ».

ثانياً: مَنْ بَرَّ أَبَاهُ وَأُمَّهُ اسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ، وَتَذَكَّرُوا أَيُّهَا الآبَاءُ الأَبْنَاءُ حَدِيثَ قِصَّةِ أَصْحَابِ الغَارِ، حَيْثُ قَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لَا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلَاً، وَلَا مَالَاً فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمَاً، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلَاً أَوْ مَالَاً، فَلَبِثْتُ وَالقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ، أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ؛ فَانْفَرَجَتْ شَيْئَاً. رواه الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

ثالثاً: مَنْ بَرَّ أَبَاهُ وَأُمَّهُ كَفَّرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ كَبَائِرَهُ، روى الترمذي عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَجُلَاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَصَبْتُ ذَنْبَاً عَظِيمَاً فَهَلْ لِي تَوْبَةٌ؟

قَالَ: «هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟».

قَالَ: لَا.

قَالَ: «هَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ؟».

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: «فَبِرَّهَا».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الآبَاءُ الأَبْنَاءُ: إِذَا أَرَدْنَا بِرَّ أَبْنَائِنَا فَعَلَيْنَا بِبِرِّ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، وَأَنْ لَا نَجْعَلَ آبَاءَنَا وَأُمَّهَاتِنَا أَهْوَنَ شَيْءٍ عَلَيْنَا، وَخَاصَّةً إِذَا تَقَدَّمَ بِهِمُ العُمُرُ، وَكَانُوا بِحَاجَةٍ إِلَيْنَا، وَلْنَعْلَمْ جَمِيعَاً أَنَّ مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ بَرَّهُ بَنُوهُ، وَمَنْ عَقَّهُمَا عَقَّهُ بَنُوهُ، فَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَالجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ، روى الترمذي عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللهُ لِصَاحِبِهِ العُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ البَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ».

أَيُّهَا الآبَاءُ الأَبْنَاءُ: فَكِّرُوا في الوَاجِبِ الذي عَلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ تُفَكِّرُوا بِالحَقِّ الذي لَكُمْ، فَكِّرُوا بِبِرِّ آبَائِكُمْ وَأُمَّهَاتِكُمْ أَحْيَاءً وَمَيْتِينَ، وَلَا تَخَافُوا بَعْدَ ذَلِكَ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِذَلِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 9/ ربيع الثاني /1440هـ، الموافق: 16/ كانون الأول / 2018م