618ـ خطبة الجمعة: مرض القلوب أخطر الأمراض

 

618ـ خطبة الجمعة: مرض القلوب أخطر الأمراض

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: الأَمْرَاضُ التي تُصِيبُ الإِنْسَانَ نَوْعَانِ، أَمْرَاضٌ تُصِيبُ الأَبْدَانَ، وَأَمْرَاضٌ تُصِيبُ القُلُوبَ، وَإِنَّ أَمْرَاضَ القُلُوبِ أَشَدُّ فَتْكَاً، وَأَشَدُّ خَطَرَاً مِنْ أَمْرَاضِ الأَبْدَانِ، لِأَنَّ أَمْرَاضَ القَلْبِ لَا يَنْكَشِفُ خَطَرُهَا للإِنْسَانِ إِلَّا عِنْدَ المَوْتِ، وَلِأَنَّهَا تُؤَدِّي إلى خَسَارَةِ الدُّنْيَا وَخَسَارَةِ الآخِرَةِ، وَتُؤَدِّي إلى فَسَادِ الدِّينِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: حَيَاةُ القُلُوبِ بِالإِيمَانِ وَمُرَاقَبَةِ اللهِ تعالى هِيَ حَيَاةٌ للأَبْدَانِ، وَمَوْتُ القُلُوبِ يُؤَدِّي إلى مَوْتِ الأَبْدَانِ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الأَبْدَانُ تَـمْشِي عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾. وكَمَا قَالَ تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾.

الغَفْلَةُ عَنِ اللهِ تعالى أَخْطَرُ الأَمْرَاضِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: وَأَخْطَرُ الأَمْرَاضِ القَلْبِيَّةِ هِيَ الغَفْلَةُ عَنِ اللهِ تعالى، وَهَذِهِ الغَفْلَةُ عَنِ اللهِ تعالى قَدِ اسْتَحْكَمَتْ فِي حَيَاةِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَصَدَّتْهُم عَنِ الهِدَايَةِ، وَأَنْسَتْهُمُ الآخِرَةَ، وَانْشَغَلُوا وَخَاصَّةً مِنْهُمُ الشَّبَابَ وَالشَّابَّاتِ بِالأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ وَالمُخَالَفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ حَتَّى فَاجَأَهُمُ المَوْتُ، فَإِذَا بِالوَاحِدِ مِنْهُمْ يَـصْرُخُ: رَبِّ ارْجِعُونِ، رَبِّ ﴿لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. رَبَّاهُ لَعَلِّي أَتُوبُ، لَعَلِّي أَرْجِعُ، لَعَلِّي أَصْطَلِحُ مَعَكَ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾.

قِفُوا مَعَ أَنْفُسِكُمْ لَحْظَةً:

يَا عِبَادَ اللهِ: الغَفْلَةُ عَنِ اللهِ تعالى جَرَّأَتِ الكَثِيرَ عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ تعالى، فَأَنْسَتِ الغَافِلَ أَنَّ أَيَّامَ عُمُرِهِ تُطْوَى، وَفي كُلِّ لَحْظَةٍ يَقْتَرِبُ مِنْ وُقُوفِهِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى للعَرْضِ وَللحِسَابِ.

لَقَدْ مَضَى عَامٌ كَامِلٌ مِن عُمُرِنَا، وَطُوِيَ فِيهِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ خَيْرٍ أَو شَرٍّ ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرَاً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيدَاً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: تَمُرُّ بِنَا الأَيَّامُ تَتْرَا، وَنُسَاقُ إلى آجَالِنَا وَالعَيْنُ تَنْظُرُ، وَإِنَّ الدَّقَائِقَ وَالثَّوَانِيَ التي ذَهَبَتْ مِنْ أَعْمَارِنَا لَنْ تَعُودَ وَلَو أَنْفَقْنَا مِثْلَ جِبَالِ الأَرْضِ ذَهَبَاً.

لِنَجْعَلْ لِأَنْفُسِنَا مِنْ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ حَظَّاً وَنَصِيبَاً، روى الحاكم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: «اغْتَنِمْ خَمْسَاً قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ».

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَحْرِصْ عَلَى سَلَامَةِ قُلُوبِنَا مِنَ الأَمْرَاضِ، فَوَاللهِ لَنْ يُفْلِحَ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ قَلْبُهُ سَلِيمَاً ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: القَلْبَ القَلْبَ، حَافِظُوا عَلَى سَلَامَةِ القُلُوبِ، فَإِذَا صَلُحَتْ صَلُحَتِ الأَحْوَالِ كُلُّهَا، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَتِ الأَحْوَالُ كُلُّهَا.

القَلْبَ القَلْبَ، فَهُوَ وِعَاءُ التَّقْوَى، فَإِذَا فَسَدَ فَلَا تَقْوَى وَلَا صَلَاحَ، بَلْ حَيَاةُ الشَّقَاءِ وَالضَّنْكِ في الدُّنْيَا، وَالنَّدَمُ وَالحَسَرَاتُ عِنْدَ المَصَائِبِ وَالشَّدَائِدِ، وَخَاصَّةً عِنْدَ سَكَرَاتِ المَوْتِ.

القَلْبُ إِذَا غَفَلَ عَنِ اللهِ تعالى وَاشْتَدَّتْ غَفْلَتُهُ فَصَاحِبُهُ يَنْسَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا يَأْتَمِرُ بِأَمْرِهِ، وَلَا يَنْتَهِي عَمَّا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ، بَلْ يَقِفُ مَعَ شَهَوَاتِهِ وَلَذَّاتِهِ، وَلَو كَانَ فِيهَا سَخَطُ رَبِّهِ وَغَضَبُهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: كَمْ يَبْكِي الوَاحِدُ مِنَّا إِذَا مَرِضَ جَسَدُهُ، مَعَ أَنَّ مَرَضَ الجَسَدِ إِنْ صَبَرَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ فَلَهُ بِذَلِكَ أَجْرٌ عَظِيمٌ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ، وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ، وَلَا حُزْنٍ، وَلَا أَذَىً، وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا.

أَيْنَ مَنْ يَبْكِي عَلَى قَلْبِهِ إِذَا مَرِضَ، أَيْنَ مَنْ يَذْكُرُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضَاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾؟

الذُّنُوبُ أَمْرَضَتِ القُلُوبَ، حَتَّى صَارَ الرَّانُ عَلَيْهَا، روى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾».

يَا عِبَادَ اللهِ: كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ إلى مَنْ يُزَكِّي لَنَا نُفُوسَنَا؟ نَحْنُ بِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ إلى مَنْ يُزَكِّي لَنَا نُفُوسَنَا أَشَدَّ مِنْ حَاجَتِنَا إلى طَبِيبٍ يُعَالِجُ أَبْدَانَنَا.

لِيَبْحَثْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا عَلَى مَنْ يُزَكِّي لَهُ نَفْسَهُ، لِأَنَّ مِنْ مَهَمَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَزْكِيَةُ النُّفُوسِ، وَقَدْ تَرَكَ لَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ العُلَمَاءِ العَامِلِينَ الذينَ يُزَكُّونَ لَنَا أَنْفُسَنَا، فَهَلْ نَبْحَثُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ؟

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا للتَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ وَالاسْتِغْفَارِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**      **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 4/ محرم /1440هـ، الموافق: 14/ أيلول / 2018م