20ـبر الوالدين : الحرص على هداية الأولاد

 

بر الوالدين

20ـ الحرص على هداية الأولاد

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ أَوْصَانَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ في أَوْلَادِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا خَيْرَاً، وَأَمَرَنَا أَنْ نُنَشِّئَهُمْ عَلَى طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، إِذَا كُنَّا حَرِيصِينَ عَلَى بِرِّهِمْ بِنَا.

وَأَوَّلُ العِنَايَةِ بِالأَوْلَادِ وَالذُّرِّيَّةِ أَنْ يَسْأَلَ العَبْدُ رَبَّهُ بِأَنْ يَرْزُقَهُ اللهُ تعالى زَوْجَةً صَالِحَةً تَكُونُ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُ، بِحَيْثُ إِنْ أَمَرَهَا في غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللهِ تعالى أَنْ تُطِيعَهُ، وَإِن نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ في نَفْسِهَا وَمَالِهِ.

وَأَنْ يُكْثِرَ مِنَ الدُّعَاءِ: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامَاً﴾.

كَمَا عَلَى الأَبَوَيْنِ الإِكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ بِأَنْ يَرْزُقَهُمَا اللهُ تعالى أَوْلَادَاً صَالِحِينَ، دُونَ تَقْيِيدٍ بِذَكَرٍ أَو أُنْثَى، بَلْ كَمَا دَعَا سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.

وَكَمَا دَعَا سَيِّدُنَا زَكَرِيَّا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ حِفْظِ وَصِيَّةَ اللهِ تعالى في الأَهْلِ وَالوَلَدِ، أَنْ يُخْلِصَ كُلٌّ مِنَ الأَبَوَيْنِ في الدُّعَاءِ لَهُمْ بِالخَيْرِ، وَأَنْ لَا يَدْعُوَ اللهَ تعالى عَلَيْهِمْ أَبَدَاً، وَلَو في حَالَةِ السُّخْطِ، لِأَنَّ دُعَاءَ الوَالِدَيْنِ مُجَابٌ، روى الإمام مسلم عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ».

الحِرْصُ عَلَى هِدَايَةِ الأَوْلَادِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ أَرَادَ بِرَّ أَبْنَائِهِ بِهِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ حَرِيصَاً عَلَى هِدَايَتِهِمْ، وَعَلَى حُسْنِ دِينِهِمْ، وَصَلَاحِهِمْ، وَاسْتِقَامَتِهِمْ، وَكَمَالِ أَخْلَاقِهِمْ، مِنْ قَبْلِ وِلَادَتِهِمْ في الدُّنْيَا، ثُمَّ يَسْتَمِرُّ هَذَا الحِرْصُ بَعْدَ وِلَادَتِهِمْ، كَمَا يُرْجَى أَنْ يَتِمَّ هَذَا حَتَّى يَكُونُوا جَمِيعَاً في مَقَامٍ وَاحِدٍ في الآخِرَةِ.

قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾.

وَقَالَ سُبْحَانَهُ وتعالى عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾.

وَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾.

فَهَؤُلَاءِ الأَنْبِيَاءُ الكِرَامُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَسْأَلُونَ اللهَ تعالى أَنْ يَهَبَهُمْ ذُرِّيَّةً صَالِحَةً مُسْلِمَةً عَابِدَةً، إِنَّهُ تعالى سَمِيعُ الدُّعَاءِ، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ دَعَوَاتِهِمْ.

وَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى لِسَانِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ الصَّالِحِينَ: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامَاً * أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامَاً * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرَّاً وَمُقَامَاً﴾.

فَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الحِرْصِ عَلَى وُجُودِ الذُّرِّيَّةِ الصَّالِحَةِ، وَهَذَا الحِرْصُ مِنْ قَبْلِ وُجُودِ الذُّرِّيَّةِ حَتَّى الدَّارِ الآخِرَةِ، لِيَكُونُوا جَمِيعَاً في مَقَامٍ وَاحِدٍ، عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ.

بَلْ إِنَّ حِرْصَ الإِنْسَانِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ الصَّالِحَةِ لَا يَتَوَقَّفُ عِنْدَ مُطْلَقِ الصَّلَاحِ، بَلْ يَتَطَلَّعُ الإِنْسَانُ إلى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فِيهِ، وَهِيَ الإِمَامَةُ في الكَوْنِ.

فَإِذَا كَانَ عِبَادُ الرَّحْمَنِ الصَّالِحُونَ طَلَبُوا مِنَ اللهِ تعالى أَنْ يَكُونُوا أَئِمَّةً: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامَاً﴾. فَإِنَّ سَيِّدَنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَرِصَ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ، كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامَاً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾. فَأَعْطَاهُ اللهُ تعالى ذَلِكَ، إِلَّا بِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الظُّلْمِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، فَإِنَهُ غَيْرُ مُكَرَّمٍ لَهُ بِالإِمَامَةِ، لِأَنَّ الإِمَامَةَ في أَوْلِيَائِهِ، وَلَيْسَتْ في أَعْدَائِهِ، وَاللهُ تعالى لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.

وَمِنْ حِرْصِ الإِنْسَانِ عَلَى أَوْلَادِهِ العَمَلُ أَلَّا يُخَالِفُوهُ في مُعْتَقَدِهِ وَدِينِهِ وَأَفْكَارِهِ، لِأَنَّ المُخَالَفَةَ في المُعْتَقَدِ وَالدِّينِ هِيَ أَصْعَبُ أَنْوَاعِ المُخَالَفَاتِ، وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ الكَافِرُ أَقْصَى أَنْوَاعِ العُقُوبَاتِ.

وَيُمَثِّلُ هَذَا المَعْنَى الغُلَامُ في قِصَّةِ سَيِّدِنَا مُوسَى وَالخَضِرِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَمَا قَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانَاً وَكُفْرَاً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرَاً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمَاً﴾. فَهُوَ عَاقٌّ كَافِرٌ مَطْبُوعٌ عَلَيْهِ قَبْلَ خَلْقِهِ بِذَلِكَ، لِذَلِكَ اسْتَحَقَّ القَتْلَ، لِيَسْلَمَ وَالِدَاهُ الصَّالِحَانِ مِنْ شَرِّهِ وَطُغْيَانِهِ وَكُفْرِهِ.

وَكُلَّمَا كَانَ الوَالِدَانِ وَالأَوْلَادُ عَلَى فِكْرٍ وَاحِدٍ وَمُعْتَقَدٍ وَاحِدٍ، كَانَتِ الحَيَاةُ بَيْنَهُمْ في وِئَامٍ وَصَفَاءٍ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَكُنْ حَرِيصِينَ عَلَى تَرْبِيَةِ الأَوْلَادِ وَالعِنَايَةِ بِهِمْ، لِأَنَّ هَذَا مِنْ شُكْرِ اللهِ تعالى عَلَى نِعْمَةِ الوَلَدِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُونَ بَرَرَةً بِنَا في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَذُخْرَاً لَنَا في الآخِرَةِ.

لِنَهْتَمَّ بِتَرْبِيَةِ الأَبْنَاءِ وَلْنَحْرِصْ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَاسْتِقَامَتِهِمْ مُنْذُ نُعُومَةِ أَظْفَارِهِمْ، لِأَنَّ العِلْمَ في الصِّغَرِ كَالنَّقْشِ عَلَى الحَجَرِ في الثَّبَاتِ وَبَقَاءِ الأَثَرِ.

روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كِخْ كِخْ (كَلِمَةٌ يُزْجَرُ بِهَا الصِّبْيَانُ عَنِ المُسْتَقْذَرَاتِ) ارْمِ بِهَا، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ؟».

وروى الإمام البخاري عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كُنْتُ غُلَامَاً فِي حَجْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا غُلَامُ، سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ.

وروى أبو داود عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي المَضَاجِعِ». أَمَرَ بِالتَّفرِيقِ بَيْنَهُمْ في المَضَاجِعِ دَفْعَاً للمَفْسَدَةِ، وَحَذَرَاً مِنَ الفِتْنَةِ، وَتَنْبِيهَاً للأُمَّةِ عَلَى وَاجِبِ الصِّيَانَةِ، وَحِفْظِ الدِّيَانَةِ.

لِنَتَّقِ اللهَ تعالى، وَلْنَحْفَظْ وَصِيَّةَ اللهِ في الأَوْلَادِ، وَلْنَذْكُرْ مَوْقِفَنَا يَوْمَ المَعَادِ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلَىً عَنْ مَوْلَىً شَيْئَاً وَلَا هُم يُنْصَرُونَ؛ لِنَحْرِصْ عَلَى هِدَايَةِ الأَوْلَادِ إِذَا كُنَّا حَرِيصِينَ عَلَى بِرِّهِمْ لَنَا.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 6/ محرم /1440هـ، الموافق: 16/ أيلول / 2018م