130ـمع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم : أأنت تتحمل عني وزري يوم القيامة

 

مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

130ـ أأنت تتحمل عني وزري يوم القيامة

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: رَحْمَةُ اللهِ تعالى عَمَّتِ الكَائِنَاتِ، وَأَعْظَمُ صِفَةٍ لِمَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ هِيَ الرَّحْمَةُ، فَهُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَهُوَ رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَوَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، كَمَا قَالَ تعالى مُخْبِرَاً عَنْ ثَنَاءِ المَلَائِكَةِ عَلَى رَبِّنَا بِالرَّحْمَةِ، قَالَتِ المَلَائِكَةُ: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمَاً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾. فَرَحْمَتُهُ تَبَارَكَ وتعالى تَبْلُغُ مَا بَلَغَ عِلْمُهُ، وَهِيَ لَا تَتَنَاهَى.

وَلِهَذَا طَلَبَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ مِنَ العِبَادِ أَنْ يَكُونُوا رُحَمَاءَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، لِأَنَّ رَبَّهُمْ رَحِيمٌ، وَنَبِيَّهُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَحِيمٌ، وَشَرْعَهُمْ رَحِيمٌ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُوا رُحَمَاءَ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَا أَجْمَلَ العَبْدَ عِنْدَمَا يَتَحَلَّى بِخُلُقِ الرَّحْمَةِ، فَيَكُونُ رَحِيمَاً بِخَلْقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَالرَّحِيمُ مِنَ العِبَادِ مَرْحُومٌ مِنْ رَبِّ العِبَادِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَبْعَدُ القُلُوبِ عَنِ اللهِ تعالى القَلْبُ القَاسِي، فَاللهُ تعالى لَا يُحِبُّ الجَبَّارِينَ وَالمُتَكَبِّرِينَ، وَالذينَ نُزِعَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَلَا يَحْمِلُونَ إِلَّا قُلُوبَاً قَاسِيَةً، لَا تَعْرِفُ الشَّفَقَةَ، وَلَا تَعْرِفُ الرَّحْمَةَ، وَلَا تَلِينُ في حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾.

أَأَنْتَ تَحْمِلُ عَنِّي وِزْرِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ رَبَّى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ الكِرَامَ عَلَى خُلُقِ الرَّحْمَةِ، وَإِلَيْكُمْ هَذِهِ الصُّورَةَ مِنْ صُوَرِ خُلُقِ الرَّحْمَةِ التي تَجَسَّدَتْ في شَخْصِيَّةِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ الذي مَا كَانَ يَعْرِفُ خُلُقَ الرَّحْمَةَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، وَلَكِنَّ الإِسْلَامَ جَعَلَهُ مِنْ أَرْحَمِ خَلْقِ اللهِ تعالى عَلَى خَلْقِ اللهِ تعالى.

روى الإمام أحمد في فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى حَرَّةَ وَاقِمٍ (أَرْضٌ حِجَارَتُهَا سُودٌ بُرْكَانِيَّةٌ، وَالمَدِينَةُ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ) حَتَّى إِذَا كُنَّا بِـصِرَارٍ (عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ المَدِينَةِ) إِذَا نَارٌ، فَقَالَ: يَا أَسْلَمُ، إِنِّي لَأَرَى هَا هُنَا رَكْبَاً قَصَّرَ بِهِمُ اللَّيْلُ وَالْبَرْدُ، انْطَلِقْ بِنَا.

فَخَرَجْنَا نُهَرْوِلُ حَتَّى دَنَوْنَا مِنْهُمْ، فَإِذَا بِامْرَأَةٍ مَعَهَا صِبْيَانٌ صِغَارٌ وَقِدْرٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى نَارٍ، وَصِبْيَانُهَا يَتَضَاغَوْنَ (أَيْ: يَتَصَايَحُونَ).

فَقَالَ عُمَرُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَصْحَابَ الضَّوْءِ ـ وَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ: يَا أَصْحَابَ النَّارِ ـ.

فَقَالَتْ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ.

فَقَالَ: أَدْنُو؟

فَقَالَتِ: ادْنُ بِخَيْرٍ، أَوْ دَعْ.

فَدَنَا، فَقَالَ: مَا بَالُكُمْ؟

قَالَتْ: قَصَّرَ بِنَا اللَّيْلُ وَالْبَرْدُ.

قَالَ: فَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ الصِّبْيَةِ يَتَضَاغَوْنَ؟

قَالَتْ: الْجُوعُ.

قَالَ: فَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْقِدْرِ؟

قَالَتْ: مَاءٌ أُسْكِتُهُمْ بِهِ حَتَّى يَنَامُوا، وَاللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عُمَرَ.

فَقَالَ: أَيْ رَحِمَكِ اللهُ، وَمَا يُدْرِي عُمَرَ بِكُمْ؟

قَالَتْ: يَتَوَلَّى عُمَرُ أَمْرَنَا ثُمَّ يَغْفُلُ عَنَّا.

قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ: انْطَلِقْ بِنَا.

فَخَرَجْنَا نُهَرْوِلُ حَتَّى أَتَيْنَا دَارَ الدَّقِيقِ، فَأَخْرَجَ عِدْلَاً مِنْ دَقِيقٍ وَكَبَّةً مِنْ شَحْمٍ، فَقَالَ: احْمِلْهُ عَلَيَّ.

فَقُلْتُ: أَنَا أَحْمِلُهُ عَنْكَ.

قَالَ: أَنْتَ تَحْمِلُ عَنِّي وِزْرِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ لَا أُمَّ لَكَ!.

فَحَمَلْتُهُ عَلَيْهِ فَانْطَلَقَ، وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ إِلَيْهَا نُهَرْوِلُ، فَأَلْقَى ذَلِكَ عِنْدَهَا وَأَخْرَجَ مِنَ الدَّقِيقِ شَيْئَاً، فَجَعَلَ يَقُولُ لَهَا: ذُرِّي عَلَيَّ، وَأَنَا أَحُرُّ لَكِ (أَتَّخِذُ لَكِ حَرِيرَةً، وَهِيَ حِسَاءٌ مِنْ دَقِيقٍ وَدَسَمٍ) وَجَعَلَ يَنْفُخُ تَحْتَ الْقِدْرِ ثُمَّ أَنْزَلَهَا، وَكَانَ ذَا لِحْيَةٍ عَظِيمَةٍ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الدُّخَانِ مِنْ خَلَلِ لِحْيَتِهِ حَتَّى أَنْضَجَ، ثُمَّ أَنْزَلَ الْقِدْرَ.

فَقَالَ: أَبْغِينِي شَيْئَاً، فَأَتَتْهُ بِصَحْفَةٍ فَأَفْرَغَهَا فِيهَا، ثُمَّ جَعَلَ يَقُولُ لَهَا: أَطْعِمِيهُمْ وَأَنَا أُسَطِّحُ لَهُمْ (أَيْ: أَبْسُطُهُ حَتَّى يَبْرُدَ) فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى شَبِعُوا، وَتَرَكَ عِنْدَهَا فَضْلَ ذَلِكَ، وَقَامَ وَقُمْتُ مَعَهُ.

فَجَعَلَتْ تَقُولُ: جَزَاكَ اللهُ خَيْرَاً، كُنْتَ أَوْلَى بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ.

فَيَقُولُ: قُولِي خَيْرَاً، إِذَا جِئْتِ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ وَجَدْتِينِي هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللهُ.

ثُمَّ تَنَحَّى نَاحِيَةً عَنْهَا، ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا فَرَبَضَ مَرْبَضَاً، فَقُلْنَا لَهُ: إِنَّ لَنَا شَأْنَاً غَيْرَ هَذَا؛ وَلَا يُكَلِّمُنِي، حَتَّى رَأَيْتُ الصِّبْيَةَ يَصْطَرِعُونَ ثُمَّ نَامُوا وَهَدَؤُوا.

فَقَالَ: يَا أَسْلَمُ، إِنَّ الْجُوعَ أَسْهَرَهُمْ وَأَبْكَاهُمْ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ لَا أَنْصَرِفَ حَتَّى أَرَى مَا رَأَيْتُ.

وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ في حَقِّ الفَارُوقِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ:

وَمَنْ رَآهُ أَمَامَ الْقِدَرِ مُـنْـبَـطِحَــاً   ***   وَالـــــــنَّارُ تَأْخُذُ مِنْهُ وَهْوَ يُذْكِيهَا

وَقَدْ تَخَـلَّـلَ فِي أَثْـنَاءِ لِحْيَتِـــــــهِ   ***   مِنْهَا الدُّخَــــانَ وَفُوْهُ غَابَ فِي فِيهَا

رَأَى هُـنَاكَ أَمِـــيرَ المُؤْمِنِينَ عَـلَى   ***   حَالٍ تَرُوْعُ ـ لَعَمْرُ الله ـ رَائِــــــيْهَا

يَسْتَقْبِلُ النَّارَ خَوْفَ النَّارِ فِي غَدِهِ    ***   وَالْعَيْنُ مِــــنْ خَشْيَةٍ سَالَتْ مَآقِيهَا

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الأَخْلَاقُ هِيَ عِمَادُ الأُمَمِ وَقَوَامُ الشُّعُوبِ، وَالأُمَمُ بَاقِيَةٌ مَا بَقِيَتْ أَخْلَاقُهَا، وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ لَا مَجَالَ لِإِنْكَارِهَا، وَمَا تَدَهْوَرَتِ الأَخْلَاقُ في الأُمَّةِ إِلَّا بِسَبَبِ نَقْصِ الوَازِعِ الدِّينِيِّ في النُّفُوسِ.

مِفْتَاحُ القَبُولِ للقُلُوبِ هُوَ خُلُقُ الرَّحْمَةِ، وَفُقْدَانُ الرَّحْمَةِ يَعْنِي فُقْدَانَ الحَيَاةِ الهَانِئَةِ، وَنَقْلَهَا إلى حَيَاةِ شَقَاءٍ وَضَنْكٍ، وَعَوْدَةً إلى جَاهِلِيَّةٍ جَهْلَاءَ، وَأَثَرَةٍ عَمْيَاءَ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ لَا يَنْزِعَ الرَّحْمَةَ مِنْ قُلُوبِنَا. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 10/ محرم /1440هـ، الموافق: 20/ أيلول / 2018م