619ـ خطبة الجمعة: ﴿فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾

 

 

619ـ خطبة الجمعة: ﴿فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: الغَفْلَةُ عَنِ اللهِ تعالى هِيَ الدَّاءُ الذي يُرْدِي الكَثِيرِينَ عَنِ العَمَلِ لِيَوْمَ الحِسَابِ، وَيُنْسِيهِمْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ﴾. وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلَاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾.

الغَفْلَةُ عَنِ اللهِ تعالى تُعْمِي القَلْبَ عَنِ الطَّاعَاتِ، وَتُحَرِّضُ صَاحِبَهَا عَلَى ارْتِكَابِ المُوبِقَاتِ وَالمُهْلِكَاتِ، وَتُلْهِيهِ بِسَفَاسِفِ الأُمُورِ وَالشَّهَوَاتِ، وَتَخْدَعُ صَاحِبَهَا بِالأَمَانِي حَتَّى يَدْنُو الأَجَلُ، وَتَبْدو الحَقِيقَةُ، وَتَنْكَشِفُ الأُمُورُ الغَيْبِيَّةُ ﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾. عِنْدَهَا يَنْدَمُ الغَافِلُ عَلَى مَا فَرَّطَ في جَنْبِ اللهِ تعالى، وَيَتَمَنَّى ﴿لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلَّا﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: سَبَبُ الغَفْلَةِ عَنِ اللهِ تعالى، وَعَنِ الحِسَابِ، وَعَنِ الوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى، هُوَ ضَعْفُ الإِيمَانِ، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ وَاضِحَاً في حَدِيثِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَـشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ. وَضَعْفُ الإِيمَانِ سِمَةٌ مِنْ سِمَاتِ العُصَاةِ، وَلَا يَعْنِي نَفْيَ الإِيمَانِ.

﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ خِلَالِ قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» رواه الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا.

وَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ».

قُلْنَا: لِمَنْ؟

قَالَ: «للهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» رواه الإمام مسلم عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

أَتَوَجَّهُ إلى الإِخْوَةِ الذينَ انْتَمَوا إلى نَقَابَةِ المُحَامِينَ مِنْ أَجْلِ العَمَلِ في المُحَامَاةِ وَالدِّفَاعِ عَنْ مُوَكِّلِيْهِمْ، لِأَقُولَ لَهُمْ: تَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلَاً﴾.

تَذَكَّرُوا يَا أَيُّهَا السَّادَةُ المُحَامُونَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلَاً﴾؟ فَلَا تَجْعَلُوا الحَقَّ بَاطِلَاً، وَالبَاطِلَ حَقَّاً، بِلَحْنِ القَوْلِ، أَو بِالرِّشْوَةِ.

وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَنَضَعُ المَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئَاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾.

وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ سَتُعْرَضُونَ أَنْتُمْ وَمُوَّكِلُوْكُمْ عَلَى اللهِ تعالى، الذي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ.

تَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرَاً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدَاً﴾. وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.

تَذَكَّرُوا يَا أَيُّهَا السَّادَةُ وَأَنْتُمْ تَدْخُلُونَ قَاعَةَ المَحْكَمَةِ، وَتَرَوْنَ المُتَّهَمِينَ خَلْفَ الأَقْفَاصِ الحَدِيدِيَّةِ، وَأَنْتُمْ تَبْدَأونَ في المُرَافَعَاتِ أَمَامَ القُضَاةِ، هَلْ تُدَافِعُونَ عَنْ حَقٍّ أَمْ عَنْ بَاطِلٍ؟ هَلْ تُحَاوِلُونَ إِحْقَاقَ الحَقِّ وَإِبْطَالَ البَاطِلِ، أَمِ العَكْسُ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى؟

وَتَذَكَّرُوا حَالَ المُتَّهَمِينَ كَيْفَ انقَطَعَتْ أَنْفَاسُهُمْ، وَكَادَتْ قُلُوبُهُمْ أَنْ تَبْلُغَ الحَنَاجِرَ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ بِأَيِّ شَيْءٍ سَيُحْكَمُ عَلَيْهِمْ؟ وَبِأَيِّ شَيْءٍ سَيَنْطِقُ القَاضِي الفَقِيرُ إلى اللهِ تعالى المَلِكِ القَدِيرِ؟

تَذَكَّرُوا مُرَافَعَاتِكُمْ، وَتَذَكَّرُوا قَرَارَ القَاضِي الذي سَيَصْدُرُ مِنْ خِلَالِ مَا قَدَّمْتُمْ، ثُمَّ تَصَوَّرُوا حَالَكُمْ وَأَنْتُمْ وَاقِفُونَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ القَائِلِ: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾. وَالقَائِلِ: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسَاً * يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلَاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمَاً * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمَاً﴾.

تَذَكَّرْ يَا أَخِي المُحَامِي، هَلْ تُدَافِعُ عَنْ حَقٍّ أَمْ عَنْ بَاطِلٍ؟ تُدَافِعُ عَنْ ظَالِمٍ أَمْ عَنْ مَظْلُومٍ؟ ثُمَّ تَذَكَّرْ بِأَنَّكَ رَاحِلٌ مِنَ الدُّنْيَا بِالقَهْرِ لَا بالاخْتِيَارِ، وَأَنَّكَ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلَاً﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

تَذَكَّرُوا يَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ المُحَامُونَ، قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنْزِعَ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ، حُبِسَ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ (عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ) حَتَّى يَأْتِيَ بِالمَخْرَجِ مِمَّا قَالَ» رواه الحاكم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا.

لَا تَكُونُوا عَوْنَاً لِظَالِمٍ يُرِيدُ إِحْقَاقَ البَاطِلِ وَإِبْطَالَ الحَقِّ، لَا تَسِيرُوا خَلْفَ مَنْ لَا إِيمَانَ لَهُ وَلَا عَهْدَ، وَارْبَأوا بِأَنْفُسِكُمْ، لَا تُدَافِعُوا عَنْ ظَالِمٍ، وَلَا عَنْ كَاذِبٍ، وَلَا عَنْ مُفْتَرٍ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ تَسْوِيلُ النَّفْسِ وَتَزْيِينُ الشَّيْطَانِ أَنْ تَقَعُوا تَحْتَ مَقُولَةِ بِأَنَّنِي مَا تَعَوَّدْتُ أَنْ أَخْسَرَ قَضِيَّةً، وَلَا يَلِيقُ بِسُمْعَةِ مَكْتَبِي وَخِبْرَتِي أَنْ أَخْرُجَ خَاسِرَاً في دِفَاعِي عَمَّنْ أُمَثِّلُ، وَكَأَنَّ الأَمْرَ أَمْرُ سُمْعَةِ شَخْصِيَّةٍ، وَتَنْسَوا عَظِيمَ المَسْؤُولِيَّةِ أَمَامَ رَبِّ البَرِيَّةِ، وَاسْتَحْضِرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلَاً﴾.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ لَا نَكُونَ مِنَ الغَافِلِينَ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا مِنَ النَّادِمِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**      **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 11/ محرم /1440هـ، الموافق: 21/ أيلول / 2018م