70ـ مزاحه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

 

من كتاب سيدنا محمد رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

70ـ مزاحه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: وَمِنْ جُمْلَةِ مَا وَرَدَ في مُزَاحِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

مَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلَاً اسْتَحْمَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (أَيْ: يَطْلُبُ مِنْهُ دَابَّةً).

فَقَالَ: «إِنِّي حَامِلُكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ».

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ؟ فَتَوَهَّمَ الرَّجُلُ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَيَحْمِلُهُ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ صَغِيرٍ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَهَلْ تَلِدُ الإِبِلَ إِلَّا النُّوقُ؟».

وَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، احْمِلْنِي عَلَى بَعِيرٍ.

فَقَالَ: «احْمِلْهَا عَلَى ابْنِ بَعِيرٍ».

فَقَالَتْ: مَا أَصْنَعُ بِهِ؟ وَمَا يَحْمِلُنِي يَا رَسُولَ اللهِ!

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَهَلْ يَجِيءُ بَعِيرٌ إِلَّا ابْنُ بَعِيرٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ العَلَّامَةُ الزَّرْقَانِيُّ: فَتَعَدَّدَتِ الوَاقِعَةُ بِالنِّسْبَةِ للرَّجُلِ وَالمَرْأَةِ.

وَرَوَى ابْنُ بَكَّارٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ أَيْمَنَ الحَبَشِيَّةُ، جَاءَتْ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ زَوْجِي يَدْعُوكَ.

فَقَالَ: «مَنْ هُوَ؟ أَهُوَ الذي بِعَيْنَيْهِ بَيَاضٌ؟».

فَقَالَتْ: مَا بِعَيْنِهِ بَيَاضٌ.

فَقَالَ: «بَلَى بِعَيْنَيْهِ بَيَاضٌ».

فَقَالَتْ: لَا وَاللهِ.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِعَيْنَيْهِ بَيَاضٌ» أَيْ: البَيَاضُ المُحِيطُ بِالحَدَقَةِ.

وَمِنْ ذَلِكَ مُمَازَحَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للمَرْأَةِ العَجُوزِ:

رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَتْ عَجُوزٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الجَنَّةَ.

فَقَالَ: «يَا أُمَّ فُلَانٍ، إِنَّ الجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا عَجُوزٌ».

قَالَ: فَوَلَّتْ ـ أَيْ: ذَهَبَتْ ـ وَهِيَ تَبْكِي.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا وَهِيَ عَجُوزٌ، إِنَّ اللهَ تعالى يَقُولُ: ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارَاً * عُرُبَاً أَتْرَابَاً﴾ عُرُبَاً: جَمْعُ عَرُوبٍ، وَهِيَ المُفْصِحَةُ عَنْ مَحَبَّةِ زَوْجِهَا، وَالأَتْرَابُ: جَمْعُ تُرَبٍ، وَالمُرَادُ: أَنَّهُنَّ مُتَسَاوِيَاتٌ في سِنٍّ وَاحِدَةٍ؛ وَقَالَ الحَافِظُ التِّرْمِذِيُّ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُرْسَلَةٌ، وَجَاءَ في رِوَايَةٍ أُخْرَى مَوْصُولَةٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى مُمَازَحَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِمُؤَانَسَةِ المُخَاطَبِ، وَتَطْيِيبِ نَفْسِهِ، وَلِإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ المُزَاحَ هُوَ الانْبِسَاطُ مَعَ الغَيْرِ مِنْ غَيْرِ أَذَىً.

وَلِذَلِكَ كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يَتَمَازَحُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، كَمَا جَاءَ في الأَدَبِ المُفْرَدِ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَبَادَحُونَ بِالْبِطِّيخِ، فَإِذَا كَانَتِ الْحَقَائِقُ كَانُوا هُمُ الرِّجَالَ.

وَفِي النِّهَايَةِ لِابْنِ الأَثِيرِ: وَفِي حَدِيثِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَمَازَحُونَ وَيَتَبَادَحُونَ بِالبِطِّيخِ، يُقَالُ: بَدَحَ يْبَدَحُ إِذَا رَمَى. اهـ.

وَأَمَّا مَا وَرَدَ في الحَدِيثِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ المُزَاحِ كَمَا في سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُمَارِ أَخَاكَ، وَلَا تُمَازِحْهُ، وَلَا تَعِدْهُ مَوْعِدَاً فَتُخْلِفَهُ» فَهَذَا النَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى الإِفْرَاطِ في المُزَاحِ، لِمَا في ذَلِكَ مِنَ الشُّغْلِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ تعالى، أَو عَنِ التَّفْكِيرِ في مُهِمَّاتِ الدِّينِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ قَسْوَةِ القَلْبِ بِكَثْرَةِ الضَّحِكِ، بَلْ إِنَّ كَثْرَةَ المُزَاحِ تُورِثُ العَدَاوَةَ وَالأَذَى وَالحِقْدَ، وَجَرَاءَةَ الصَّغِيرِ عَلَى الكَبِيرِ.

وَقَدْ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَنْ كَثُرَ ضَحِكُهُ قَلَّتْ هَيْبَتُهُ، وَمَنْ مَزَحَ اسْتُخِفَّ بِهِ. اهـ. أَيْ: بِأَنَّ أَكْثَرَ المُزَاحِ.

كَمَا وَأَنَّ النَّهْيَ عَنِ المُزَاحِ مَحْمُولٌ عَلَى المُزَاحِ الذي فِيهِ أَذَىً أَو حُزْنٌ للغَيْرِ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِبَاً، وَلَا جَادَّاً، وَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ، فَفَزِعَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمَاً» قَالَ الزَّيْنُ العِرَاقِيُّ بَعْدَ مَا عَزَاهُ لِأَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. اهـ. مِنْ فَيْضِ القَدِيرِ.

وَفِي يَوْمِ الخَنْدَقِ كَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَنْقُلُ التُّرَابَ مَعَ المُسْلِمِينَ فَنَعَسَ، فَجَاءَ عُمارَةُ بْنُ حَزْمٍ فَأَخَذَ سِلَاحَهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، فَنَهَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ.

وَرُوِيَ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلَاً أَخَذَ نَعْلَيْ رَجُلٍ، فَغَيَّبَهَا وَهُوَ يَمْزَحُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُرَوِّعُوا المُسْلِمَ، فَإِنَّ رَوْعَةَ المُسْلِمِ ظُلْمٌ عَظِيمٌ».

قَالَ الحَافِظُ المُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ البَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ.

فَالمُزَاحُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ بَيْنَ الإِخْوَانِ وَالأَصْدِقَاءِ بِمَا لَا أَذَى فِيهِ، وَلَا ضَرَرَ وَلَا قَذْفَ وَلَا غِيبَةَ وَلَا شَيْنَ: في عِرْضٍ أَو دِينٍ، وَلَا اسْتِخْفَافٍ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ.

وَأَمَّا مُزَاحُ الرَّجُلِ مَعَ أَهْلِهِ وَمُلَاطَفَتُهُمْ بِأَنْوَاعِ المُلَاطَفَةِ: فَمَطْلُوبٌ وَمَحْبُوبٌ، وَهُوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّبِيِّينَ، وَمِنْ شِعَارِ المُؤْمِنِينَ:

قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَنْبَغِي للرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ في أَهْلِهِ مِثْلَ الصَّبِيِّ، فَإِذَا التُمِسَ مَا عِنْدَهُ وُجِدَ رَجُلَاً.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 18/محرم /1440هـ، الموافق: 28/ أيلول / 2018م