132ـ مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم :والله ما كنت لأطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلاء

 

مع الصحابة وآل البيت رَضِيَ اللهُ عَنهُم

132ـ والله ما كنت لأطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلاء

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عَلَيْنَا أَنْ نُقَدِّمَ لِأَنْفُسِنَا أَعْمَالَاً تُبَيِّضُ وُجُوهَنَا يَوْمَ القِيَامَةِ، يَوْمَ العَرْضِ عَلَى اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.

عَلَيْنَا أَنْ نُقَدِّمَ لِأَنْفُسِنَا أَعْمَالَاً لِيَوْمٍ ﴿لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾. وَلِيَوْمٍ قَالَ اللهُ تعالى فِيهِ: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرَاً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيدَاً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾. وَقَالَ فِيهِ: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.

وَلِيَوْمٍ قَالَ فِيهِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ﴾.

وَلِيَوْمٍ قَالَ اللهُ تعالى فِيهِ: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثَاً﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَن كَانَ حَرِيصَاً عَلَى سَلَامَتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ لَا يَسَعُهُ إِلَّا مُرَاقَبَةُ اللهِ تعالى في الـسِّرِّ وَالعَلَنِ، لِأَنَّ اللهَ تعالى يَقُولُ: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبَاً﴾. وَيَقُولُ: ﴿وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبَاً﴾.

مَنْ كَانَ حَرِيصَاً عَلَى بَيَاضِ وَجْهِهِ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، عَلَيْهِ أَنْ يُرَاقِبَ اللهَ تعالى عِنْدَ كُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلٍ في خَلْوَتِهِ وَفي جَلْوَتِهِ، وَقَدْ سُئِلَ ذُو النُّونِ المِصْرِيُّ: بِمَ يَنَالُ العَبْدُ الجَنَّةَ؟

فَقَالَ: بِخَمْسٍ: اسْتِقَامَةٍ لَيْسَ فِيهَا رَوَغَانٌ، وَاجْتِهَادٍ لَيْسَ مَعَهُ سَهْوٌ، وَمُرَاقَبَةٍ للهِ تعالى في الـسِّرِّ وَالعَلَانِيَةِ، وَانْتِظَارِ المَوْتِ بِالتَّأَهُّبِ لَهُ، وَمُحَاسَبَةِ نَفْسِكَ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبَ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدِ انْتَشَرَ في مُجْتَمَعِنَا الغِشُّ انْتِشَارَاً وَاسِعَاً، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِغَفْلَتِنَا عَنْ مُرَاقَبَةِ اللهِ تعالى، وَغِيَابِ الآخِرَةِ عَنَّا، إِلَّا مَنْ رَحِمَ الله تعالى، وَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعَاً بَصِيرَاً﴾.

وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلَاً فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟».

قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي».

وروى الإمام مسلم عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ المُزَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».

وَاللهِ مَا كُنْتُ لِأُطِيعَهُ في المَلَأِ، وَأَعْصِيَهُ في الخَلَاءِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ رَبَّى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَحَابَتَهُ وآلَ بَيْتِهِ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في السِّرِّ وَالعَلَنِ، وَعَلَى تَرْكِ الغِشِّ للرَّعِيَّةِ في جَمِيعِ صُوَرِهَا وَأَشْكَالِهَا.

لَقَدْ رَبَّى الرَّاعِيَ وَالرَّعِيَّةَ عَلَى مُرَاقَبَةِ مَنْ قَالَ في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾. وَقَالَ: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى﴾. وَقَالَ: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.

هَذَا سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ يَتَفَقَّدُ رَعِيَّتَهُ التي اسْتَرْعَاهُ اللهُ تعالى عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام ابن عساكر في تاريخ دمشق عَنْ أَسْلَمَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: بَيْنَا أَنَا مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ يَعُسُّ المَدِينَةَ إِذْ أُعْيِيَ، فَاتَّكَأَ عَلَى جَانِبِ جِدَارٍ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَقُولُ لِابْنَتِهَا: قُومِي إِلَى ذَلِكَ اللَّبَنِ فَامْذِقِيهِ بِالمَاءِ، فَقَالَتْ: يَا أُمَّتَاهُ: أَوَمَا عَلِمْتِ مَا كَانَ مِنْ عَزْمَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ؟

قَالَتْ: وَمَا كَانَ مِنْ عَزْمَتِهِ؟

قَالَتْ: إِنَّهُ أَمَرَ مُنَادِيَاً فَنَادَى: أَلَّا يُشَابَ اللَّبَنُ بِالمَاءِ.

فَقَالَتْ لَهَا: يَا ابْنَتَاهُ، قُومِي إِلَى اللَّبَنِ فَامْذِقِيهِ بِالمَاءِ، فَإِنَّكَ بِمَوْضِعٍ لَا يَرَاكِ عُمَرُ وَلَا مُنَادِي عُمَرَ.

فَقَالَتِ الصَّبِيَّةُ: وَاللهِ مَا كُنْتُ لِأُطِيعَهُ فِي المَلَأِ وَأَعْصِيَهُ فِي الْخَلاءِ.

وَعُمَرُ يَسْمَعُ كُلَّ ذَلِكَ؛ فَقَالَ: يَا أَسْلَمُ، عَلِّمِ الْبَابَ وَاعْرِفِ المَوْضِعَ.

ثُمَّ مَضَى فِي عَسَسِهِ فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: يَا أَسْلَمُ، امْضِ إِلَى المَوْضِعِ فَانْظُرْ مَنِ الْقَائِلَةُ وَمَنِ المَقُولُ لَهَا، وَهَلْ لَهُمْ مِنْ بَعْلٍ.

فَأَتَيْتُ المَوْضِعَ فَإِذَا الْجَارِيَةُ أَيِّمٌ لَا بَعْلَ لَهَا وَإِذَا تِيكَ أُمُّهَا، وَإِذَا لَيْسَ لَهُمْ رَجُلٌ.

فَأَتَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَأَخْبَرْتُهُ، فَدَعَا عُمَرُ وَلَدَهُ فَجَمَعَهُمْ فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى امْرَأَةٍ أُزَوِّجُهُ؟ وَلَوْ كَانَ بِأَبِيكُمْ حَرَكَةٌ إِلَى النِّسَاءِ مَا سَبَقَهُ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَى هَذِهِ الْجَارِيَةِ.

فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لِي زَوْجَةٌ.

وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لِي زَوْجَةٌ.

وَقَالَ عَاصِمٌ: يَا أَبَتَاهُ، لَا زَوْجَةَ لِي فَزَوِّجْنِي.

فَبَعَثَ إِلَى الْجَارِيَةِ فَزَوَّجَهَا مِنْ عَاصِمٍ، فَوَلَدَتْ لِعَاصِمٍ بِنْتَاً، وَوَلَدَتِ الابْنَةُ بِنْتَاً، وَوَلَدَتِ الابْنَةُ عُمَرَ بْنَ عَبْدَ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَسْتَعِدَّ لِلِقَاءِ اللهِ تعالى، وَذَلِكَ بِمُرَاقَبَتِهِ تعالى في الـسِّرِّ وَالعَلَنِ، مُرَاقَبَةِ اللهِ تعالى الوَاحِدِ الأَحَدِ الفَرْدِ الصَّمَدِ الدَّيَّانِ الذي لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، العَلِيمِ بِمَا في الصُّدُورِ، العَلِيمِ بِمَا نُـسِرُّ وَمَا نُعْلِنُ، العَلِيمِ بِمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ قُلُوبُنَا، الذي يَعْلَمُ وَيَسْمَعُ وَيَرَى النَّمْلَةَ السَّوْدَاءَ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ المَلْسَاءِ في اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ.

عَلَيْنَا أَنْ نَسْتَشْعِرَ مُرَاقَبَةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّهُ وَاللهِ الذي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَنْ تَمُوتَ قُلُوبٌ وَأَرْوَاحٌ تُرَاقِبُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا إِذَا غَابَتِ المُرَاقَبَةُ مَاتَتِ القُلُوبُ وَالأَرْوَاحُ، وَكَثُرَ الغِشُّ للرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ.

وَاللهِ لَو رَاقَبْنَا اللهَ تعالى حَقَّ المُرَاقَبَةِ لَفَتَحَ عَلَيْنَا رَبُّنَا بَرَكَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَكَشَفَ عَنَّا مَا بِنَا مِنْ غُمَّةٍ، وَجَعَلَ حَيَاتَنَا حَيَاةً طَيِّبَةً كَرِيمَةً في الدُّنْيَا، وَبَيَّضَ وُجُوهَنَا يَوْمَ العَرْضِ الأَكْبَرِ.

اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بِذَلِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 24/ محرم /1440هـ، الموافق: 4/ تشرين الأول/ 2018م