9ـ ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ﴾ :شعار المؤمن معاذ الله

 

﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ﴾

9ـ شعار المؤمن معاذ الله

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ الفَوَائِدِ وَالعِبَرِ التي نَسْتَفِيدُهَا مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَنْ يَجْعَلَ الإِنْسَانُ المُؤْمِنُ شِعَارَهُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَمَامَ فِتْنَةِ النِّسَاءِ خَاصَّةً: ﴿مَعَاذَ اللهِ﴾.

هَذَا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُسَطِّرُ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ لَنَا تَارِيخَهُ، وَيَحْفَظُ لَهُ مَوَاقِفَهُ، فَيَقُولُ تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: شَبَابُنَا اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ لِأَنْ يَقِفُوا أَمَامَ هَذِهِ الآيَةِ مَوْقِفَ العَبْدِ المُتَدَبِّرِ المُتَأَمِّلِ، سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمُجَرَّدِ أَنْ بَلَغَ أَشُدَّهُ، وَدَخَلَ سِنَّ الرِّجَالِ تَعَرَّضَ لِهَذِهِ المِحْنَةِ؛ وَالسَّعِيدُ مَنْ نَجَحَ في المِحَنِ لِأَنَّهُ يَرَى مِنْ وَرَائِهَا المِنَحَ التي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ تعالى.

سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَابٌّ في كَامِلِ قُوَّتِهِ وَفُتُوَّتِهِ وَشَبَابِهِ وَجَمَالِهِ، وَهُوَ في الظَّاهِرِ عَبْدٌ وَخَادِمٌ في قَصْرِ عَزِيزِ مِصْرَ، وَامْرَأَةُ العَزِيزِ امْرَأَةٌ عَزِيزَةٌ وَجِيهَةٌ غَنِيَّةٌ جَمِيلَةٌ، آمِرَةٌ نَاهِيَةٌ في قَصْرِهَا، هُوَ وَهِيَ يَعِيشَانِ تَحْتَ سَقْفٍ وَاحِدٍ، وَبَدَأَتِ المُرَاوَدَةُ، وَصَارَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْنَ شَهْوَةٍ مُؤَجِّجَةٍ، وَامْرَأَةٍ مُهَيِّجَةٍ، تُرِيدُ المَرْأَةُ حَاجَتَهَا، وَسَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُسْتَعْصِمٌ بِدِينِهِ، لَا يَعْرِفُ اللِّينَ وَلَا المُهَادَنَةَ، مِمَّا أَلْجَأَ امْرَأَةَ العَزِيزَ إلى تَكْرَارِ المُرَاوَدَةِ.

فَارِقٌ كَبِيرٌ بَيْنَ مُرَاوَدَةٍ وَمُرَاوَدَةٍ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: فَارِقٌ كَبِيرٌ بَيْنَ مُرَاوَدَةٍ وَمُرَاوَدَةٍ، مُرَاوَدَةٌ في الشَّارِعِ قَدْ تَكُونُ مَرَّةً وَاحِدَةً لَا تَتَكَرَّرُ، أَمَّا مَنْ كَانَ في البَيْتِ وَهُوَ تَحْتَ مَرْمَى المَرْأَةِ فَمُرَاوَدَتُهَا مُتَكَرِّرَةٌ، ضَحِكُهَا مُرَاوَدَةٌ، وَمِشْيَتُهَا المُتَكَسِّرَةُ مُرَاوَدَةٌ، وَسَلَامُهَا مُرَاوَدَةٌ، وَخُضُوعُهَا بِالقَوْلِ مُرَاوَدَةٌ، كَمْ هِيَ خَطِيرَةٌ وَخَطِيرَةٌ جِدَّاً هَذِهِ المُرَاوَدَةُ.

وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ﴾. كَلَامٌ دَقِيقٌ جِدَّاً، وَلَهُ عُمْقُهُ وَدَلَالَتُهُ البَعِيدَةُ، امْرَأَةُ العَزِيزِ تُرِيدُ مِنْهُ شَهْوَتَهُ، وَلَكِنَّ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَرَى أَنَّهَا تُرِيدُ ذَاتَهُ وَرُوحَهُ، تُرِيدُ دَمَارَهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَهَذَا شَأْنُ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ الذي يَرَى المَعْصِيَةَ ذُلَّاً في الدُّنْيَا، وَخَسَارَةً كَبِيرَةً في الآخِرَةِ ﴿وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامَاً * يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانَاً﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمْ وَكَمْ أَذَلَّتِ الشَّهْوَةُ رِجَالَاً، وَدَقَّتْ أَعْنَاقَهُمْ؟ كَمْ وَكَمْ لَطَّخَتِ الشَّهْوَةُ كَرَامَةَ المَرْأَةِ وَعِزَّتَهَا، كَمْ وَكَمْ أَسْكَنَتِ الشَّهْوَةُ أَصْحَابَهَا السُّجُونَ أَو القُبُورَ؟ كَمْ وَكَمْ أَهَانَتِ الشَّهْوَةُ القَبَائِلَ وَالعَشَائِرَ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى؟ شَهْوَةُ سَاعَةٍ في الدُّنْيَا تُدَمِّرُ مُسْتَقْبَلَ العَبْدِ دُنْيَا وَأُخْرَى.

إِجْرَامُ امْرَأَةِ العَزِيزِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ، وَعَدَمُ مُرَاقَبَةِ اللهِ تعالى تُذِلُّ مَنْ كَانَ في ظَاهِرِهِ عَزِيزَاً، انْظُرُوا إلى هَذِهِ المَرْأَةِ وَهِيَ السَّيِّدَةُ في قَصْرِهَا، وَهِيَ زَوْجَةُ عَزِيزِ مِصْرَ، كَيْفَ أَذَلَّتْ نَفْسَهَا أَمَامَ عَبْدٍ لَهَا وَخَادِمٍ، وَوَصَلَ بِهَا الأَمْرُ كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ﴾.

كَانَ يَكْفِيهَا أَنْ تُغْلِقَ البَابَ الخَارِجِيَّ فَقَط الذي لَا يُدْخَلُ مِنْهُ إِلَّا بَعْدَ الاسْتِئْذَانِ، وَلَكِنَّهَا غَلَّقَتِ الأَبْوَابَ بِنَفْسِهَا مِنَ الدَّاخِلِ، وَأَحْكَمَتْ إِغْلَاقَ جَمِيعِ الأَبْوَابِ حَتَّى لَا يَخْرُجَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهَا.

لَقَدْ نَسِيَتْ نَفْسَهَا أَنَّهَا امْرَأَةُ العَزِيزِ، وَنَسِيَتْ نَفْسَهَا أَنَّهَا الآمِرَةُ وَالنَّاهِيَةُ، لَقَدْ أَحْرَقَتْهَا نَارُ الشَّهْوَةِ وَأَنْسَتْهَا مَنْ هِيَ؟ وَقَالَتْ صَرَاحَةً: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾. نَسْأَلُ اللهَ الحِفْظَ وَالسَّلَامَةِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ لَوَازِمِ المَرْأَةِ التي فُطِرَتْ عَلَيْهَا لحَيَاءُ، لِذَلِكَ تَرَاهَا بِشَكْلٍ عَامٍّ مَطْلُوبَةً وَلَيْسَتْ بِطَالِبَةٍ، وَلَكِنْ نَارُ الشَّهْوَةِ أَخْرَجَتْهَا عَنْ فِطْرَتِهَا، وَقَالَتْ: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾. أَيْنَ المَفَرُّ؟ صِرَاعٌ وَمُنَازَلَةٌ بَيْنَ سِلَاحِ الشَّهْوَةِ وَالسَّطْوَةِ وَالقُوَّةِ وَالسِّيَادَةِ، وَبَيْنَ ثَبَاتٍ عَلَى الإِيمَانِ وَالعَفَافِ وَالطُّهْرِ وَالنَّزَاهَةِ.

نَعَمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الإِيمَانُ الحَقُّ لَا يَظْهَرُ إِلَّا أَمَامَ المِحَكِّ، أَمَامَ الفِتَنِ، أَمَامَ الاخْتِبَارِ، الإِيمَانُ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فَقَطْ في صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ وَلَا تِلَاوَةِ قُرْآنٍ، بَلْ يَظْهَرُ أَمَامَ الفِتَنِ، أَمَامَ الشَّهَوَاتِ بِجَمِيعِ صُوَرِهَا وَأَشْكَالِهَا، وَوَاللهِ إِنَّ النَّجَاحَ أَمَامَ الفِتَنِ وَأَمَامَ الشَّهَوَاتِ شَيْءٌ لَا يُعَادِلُهُ شَيْءٌ، وَهَذَا النَّجَاحُ يُجَسِّدُ حَقِيقَةَ العِبَادَاتِ كُلِّهَا.

احْذَرِ الغَفْلَةَ عَنِ اللهِ تعالى:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قِصَّةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ امْرَأَةِ العَزِيزِ تُعْطِينَا دَرْسَاً عَمَلِيَّاً، أَنْ لَا نَغْفُلَ عَنِ اللهِ تعالى هَذِهِ امْرَأَةَ العَزِيزِ غَابَ الرَّقِيبُ عَنْهَا ـ زَوْجُهَا ـ فَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ، وَأَرَادَتِ الوُقُوعَ في الخِيَانَةِ، وَلَكِنْ وَبِكُلِّ أَسَفٍ سَيِّدُهَا لَيْسَتْ عِنْدَهُ الغَيْرَةُ، لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ أَنْ رَأَى الآيَاتِ: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الخَاطِئِينَ﴾.

أَمَّا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الذي كَانَ يُرَاقِبُ اللهَ تعالى وَقَفَ مَوْقِفَ الرِّجَالِ الذينَ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ، وَقَفَ في تِلْكَ المِحْنَةِ وَأَمَامَ الشَّهْوَةِ مَوْقِفَ الرِّجَالِ الذينَ عَرَفُوا مُسْتَقْبَلَهُمْ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَكَانَ بِحَقٍّ كَمَا قَالَ تعالى عَنْهُ: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ﴾. وَقَالَ مُعَلِّمَاً لِكُلِّ شَبَابِ البَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ: ﴿مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمْ شَبَابُنَا اليَوْمَ بِحَاجَةٍ إلى هَذِهِ الكَلِمَةِ: ﴿مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾. كَمْ شَبَابُنَا اليَوْمَ بِحَاجَةٍ إلى أَنْ يَتَعَلَّمُوا أَنَّ الكِرَامَ لَا يَغْدِرُونَ وَلَا يَعْرِفُونَ الغَدْرَ، وَأَنَّ الأَحْرَارَ لَا يُقَابِلُونَ الإِحْسَانَ بِالإِسَاءَةِ، وَأَنَّ النُّبَلَاءَ لَا يَبْصُقُونَ في بِئْرٍ شَرِبُوا مِنْهُ.

مَا أَجْمَلَ هَذِهِ الكَلِمَةَ التي قَالَهَا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾.

كَمْ مِنْ مُدِيرٍ خَانَ؟ وَكَمْ مِنْ مُدَرِّسٍ خَانَ؟ وَكَمْ مِنْ مُوَظَّفٍ خَانَ؟ وَكَمْ مِنْ غَنِيٍّ خَانَ؟ وَكَمْ وَكَمْ مِنْ خِيَانَاتٍ تَقَعُ في المُجْتَمَعِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ غِيَابٍ: ﴿مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلَاً. آمين.

**      **    **

الاثنين: 18/ رجب /1440 هـ، الموافق: 25/ آذار / 2019م