109ـ مشاورته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لأصحابه

 

من كتاب سيدنا محمد رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

109ـ مشاورته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لأصحابه

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: مُشَاوَرَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ:

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ﴾.

فَقَدْ أَمَرَ اللهُ تعالى نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالمُشَاوَرَةِ في الأَمْرِ الذي يَحْتَاجُ بَعْدُ إلى المُشَاوَرَةِ، فَإِذَا عَزَمَ قَلْبُهُ عَلَى الفِعْلِ وَعَلَى إِمْضَائِهِ بَعْدَ المُشَاوَرَةِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الفَاءُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّرْتِيبِ وَالتَّفْرِيعِ، فَلْيَمْضِ وَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ تعالى.

وَإِنَّمَا أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُشَاوِرَ أَصْحَابَهُ أَهْلَ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ في الأُمُورِ التي تَتَطَلَّبُ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ عَقْلَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلى عَقْلِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَالسُّهَا بِالنِّسْبَةِ إلى شَمْسِ الضُّحَى (السُّها: كَوْكَبٌ صَغِيرٌ خَفِيُّ الضَّوْءِ) وَرَأْيُهُ فَوْقَ الآرَاءِ كُلِّهَا، لِحِكَمٍ:

أَوَّلَاً: تَطْيِيبُ نُفُوسِهِمْ، حَتَّى إِذَا دَخَلُوا في ذَلِكَ الأَمْرِ وَمَضَوا فِيهِ ـ كَالحَرْبِ وَأَمْثَالِهَا، يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ طِيبِ نُفُوسِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ.

وَذَلِكَ كَمَا قَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَ اللهُ تعالى نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُشَاوِرَ أَصْحَابَهُ، وَهُوَ يَأْتِيهِ وَحْيُ السَّمَاءِ، لِأَنَّهُ أَطْيَبُ لِأَنْفُسِ القَوْمِ.

ثَانِيَاً: الاسْتِظْهَارُ بِرَأْيِهِمْ، بِمَعْنَى أَنَّ رَأْيَهُمْ المُوَافِقُ لِرَأْيِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَزْدَادُ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قُوَّةً.

كَمَا رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ: «لَوِ اجْتَمَعْتُمَا فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا».

ثَالِثَاً: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سُنَّةً بَعْدَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ.

فَقَدْ أَخْرَجَ البَيْهَقِيُّ عَنِ الحَسَنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ في هَذِهِ الآيَةِ: قَدْ عَلِمَ اللهُ تعالى مَا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ مِنْ حَاجَةٍ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَنَّ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ.

وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ وَالبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾.

قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ لَغَنَّيانِ عَنْهَا، وَلَكِنْ جَعَلَهَا اللهُ رَحْمَةً لأُمَّتِي، فَمَنِ اسْتَشَارَ مِنْهُمْ لَمْ يُعْدَمْ رُشْدَاً، وَمَنْ تَركَهَا لَمْ يْعْدَمْ غَيَّاً» انْظُرْ جَمِيعَ ذَلِكَ في تَفْسِيرِ الآلُوسِيِّ.

رَابِعَاً: أَنَّ في المُشَاوَرَةِ تَقْدِيرَاً للمُسْتَشَارِ وَاعْتِبَارَاً لِمَنْزِلَتِهِ وَإِعْطَاءَهُ حُرِّيَّةَ الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ، وَبِهَا يَشْعُرُ المُسْتَشَارُ أَنَّ لَهُ اعْتِبَارَاً وَشَأْنَاً، وَأَنَّ عَلَيْهِ مَسْؤُولِيَّةً يَنْبَغِي أَنْ يُؤَدِّيَهَا حَقَّهَا، نَاصِحَاً صَادِقَاً، بِخِلَافِ الاسْتِبْدَادِ في الرَّأْيِ في مَوَاضِعَ الاسْتِشَارَةِ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ المَوْجُودِينَ مِنْ عُقَلَاءِ الرِّجَالِ كَالمَفْقُودِينَ، وَيَجْعَلُ المُخْتَارِينَ كَالمُكْرَهِينَ.

وَلِذَلِكَ كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يُشَاوِرَ أَصْحَابَهُ، فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدَاً أَكْثَرَ مُشَاوَرَةً لِأَصْحَابِهِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

خَامِسَاً: أَنَّ في المُشَاوَرَةِ اسْتِعْرَاضَ الآرَاءِ، وَشَحْذَ العُقُولِ وَالأَفْكَارِ، وَبِهَا يُعْرَفُ مَقَادِيرُ الرِّجَالِ، وَخِبْرَتُهُمْ في الأُمُورِ، وَمَدَى تَجَارُبِهِمْ فِيهَا.

حَثُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى الاسْتِشَارَةِ:

كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَحُثُّ عَلَى الاسْتِشَارَةِ وَيُرَغِّبُ فِيهَا:

فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «المُسْتَشِيرُ مُعَانٌ، وَالمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ، فَإِذَا اسْتُشِيرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُشِرْ بِمَا هُوَ صَانِعٌ لِنَفْسِهِ. رَوَاهُ العَسْكَرِيُّ وَأَصْلُهُ في السُّنَنِ.

وَالمَشُورَةُ ـ كَمَا قَالَ العُلَمَاءُ ـ أَنْ تَسْتَخْلِصَ حَلَاوَةَ الرَّأْيِ وَخَالِصَهُ مِنْ خَبَايَا الصُّدُورِ، كَمَا يَشُورُ العَسَلَ جَانِيهِ.

وَفِي بَعْضِ الآثَارِ: نَقِّحُوا عُقُولَكُمْ بِالمُذَاكَرَةِ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى أُمُورِكُمْ بِالمُشَاوَرَةِ.

وَقَدْ بَيَّنَ العُلَمَاءُ أَنَّ المُسْتَشَارَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ: أَمِينَاً مُحْتَرَمَاً، نَاصِحَاً ثَابِتَ الجَأْشِ، غَيْرَ مُعْجَبٍ بِنَفْسِهِ، وَلَا مُتَلَوِّنٍ في رَأْيِهِ، وَلَا كَاذِبٍ في مَقَالِهِ.

وَزَادَ بَعْضُهُمْ: وَلَا مُحِبَّاً ـ أَيْ: مُتَغَالِيَاً في مَحَبَّةِ الأَمْرِ المُسْتَشَارِ فِيهِ لِغَلَبَةِ هَوَى مَحْبُوبِهِ عَلَيْهِ، وَلَا مُتَجَرِّدَاً عَنِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ لَا يُسْتَشَارُ في أَمْرِ الدُّنْيَا، لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ، وَلَا مُنْهَمِكَاً في حُبِّهَا، لاسْتِيلَائِهَا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُفْسِدُ رَأْيَهُ، وَلَا بَخِيلَاً. انْظُرْ جَمِيعَ ذَلِكَ في شَرْحِ المَوَاهِبِ مِنَ الجُزْءِ الرَّابِعِ، قَالَ: وَيُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ الاسْتِشَارَةِ عَلَى الاسْتِخَارَةِ، كَمَا في المَدْخَلِ. اهـ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ، وَهُوَ بِالخَيَارِ (مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، بِأَنْ كَانَ يَلْحَقُ المُسْتَشِيرَ ضَرَرٌ إِذَا لَمْ يُشِرْ عَلَيْهِ).

إِنْ شَاءَ تَكَلَّمَ، وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ، فَإِنْ تَكَلَّمَ فَلْيَجْتَهِدْ رَأْيَهُ» رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَصْلُهُ في السُّنَنِ الأَرْبَعَةِ.

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا خَابَ مَنِ اسْتَخَارَ، وَلَا نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ في الأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ جِدَّاً، لَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ، كَمَا في مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ، وَالجَامِعِ الصَّغِير، وَشَرْحِ المَوَاهِبِ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 22/ رجب /1440هـ، الموافق: 29/ آذار / 2019م