638ـ خطبة الجمعة: أيها الإخوة الأطباء

 

638ـ خطبة الجمعة: أيها الإخوة الأطباء

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا عِبَادَ اللهِ: لِكُلِّ دِينٍ خُلُقٌ، وَخُلُقُ هَذَا الدِّينِ الرَّحْمَةُ؛ وَقَدْ كَتَبَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَفْسِهِ، وَاتَّصَفَ بِهَا، فَقَالَ تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾. وَقَالَ: ﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾.

وَقَالَ تعالى مُخَاطِبَاً حَبِيبَهُ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾.

وَقَالَ لَنَا سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» رواه الإمام البخاري عَنْ أُسَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» رواه الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

يَا عِبَادَ اللهِ: دِينُنَا دِينُ الرَّحْمَةِ، وَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ رَحِيمٌ، وَسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَحِيمٌ؛ فَهَلْ نَحْنُ رُحَمَاءُ؟

سَامِحُونِي أَنْ أَقُولَ كَلِمَةَ حَقٍّ وَلَو كَانَتْ مُرَّةً: إِنَّ أَكْبَرَ شَيْءٍ خَسِرْنَاهُ اليَوْمَ هُوَ خُلُقُ الرَّحْمَةِ، وَعِنْدَمَا فَقَدْنَاهُ خَسِرْنَا الكَثِيرَ الكَثِيرَ، وَأَرْجُو اللهَ تعالى أَنْ لَا يُعَامِلَنَا بِالمِثْلِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الأَطِبَّاءُ:

يَا عِبَادَ اللهِ: نَحْنُ نَعِيشُ في أَزْمَةٍ شَدِيدَةٍ، تَكَالَبَ فِيهَا الشَّرْقُ وَالغَرْبُ عَلَيْنَا، وَتَدَاعَتْ عَلَيْنَا الأُمَمُ، حَتَّى عَظُمَتْ هُمُومُنَا وَأَحْزَانُنَا وَأَكْدَارُنَا، وَانْعَكَسَ ذَلِكَ عَلَى أَبْدَانِنَا فَكَثُرَ المَرَضُ، وَزَادَ عَدَدُ المَرْضَى.

نَعِيشُ في أَزْمَةٍ دَمَّرَتْ بُيُوتَنَا، وَأَتْلَفَتْ أَمْوَالَنَا، وَأَذْهَبَتْ قُوَّتَنَا، وَفَرَّقَتْ شَبَابَنَا وَضَيَّعَتْهُمْ وَشَتَّتَتْهُمْ في أَصْقَاعِ الدُّنْيَا، وَانْتَشَرَتْ دَائِرَةُ الفَقْرِ حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَسْتَغْرِقَ أَفْرَادَ الأُمَّةِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ تعالى، فَمَا هُوَ الوَاجِبُ عَلَيْنَا؟

أَلَيْسَ مِنَ الوَاجِبِ عَلَيْنَا أَنْ نَتَرَاحَمَ؟

أَلَيْسَ مِنَ الوَاجِبِ عَلَيْنَا أَنْ يَرْحَمَ الأَغْنِيَاءُ الفُقَرَاءَ؟

أَلَيْسَ مِنَ الوَاجِبِ عَلَيْنَا أَنْ يَرْحَمَ الأَطِبَّاءُ المَرْضَى؟

أَلَيْسَ مِنَ الوَاجِبِ عَلَيْنَا أَنْ يَرْحَمَ أَصْحَابُ المَشَافِي المَرْضَى؟

أَلَيْسَ مِنَ الوَاجِبِ عَلَيْنَا أَنْ يَرْحَمَ أَصْحَابُ المَخَابِرِ للتَّحَالِيلِ الطِّبِّيَّةِ المَرْضَى؟

أَلَيْسَ مِنَ الوَاجِبِ عَلَيْنَا أَنْ يَرْحَمَ الصَّيَادِلَةُ المَرْضَى؟

أَيُّهَا الطَّبِيبُ المُعَالِجُ وَالمُحَلِّلُ وَالمُصَوِّرُ وَالصَّيْدَلِيُّ، انْظُرُوا إلى المَرْضَى بِعَيْنِ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَكِّرُوا في دَخْلِهِمْ وفي قُدُرَاتِهِمُ المَادِّيَّةِ، وَكُونُوا مُتَعَاوِنِينَ فِيمَا بَيْنَ بَعْضِكُمْ عَلَى خِدْمَةِ هَؤُلَاءِ المَرْضَى، وَاتَّفِقُوا عَلَى خُلُقِ الرَّحْمَةِ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُوا.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الأَطِبَّاءُ عَلَى مُخْتَلَفِ اخْتِصَاصَاتِكُمْ: فَكِّرُوا في قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْتُمْ تُشَاهِدُونَ المَرْضَى الفُقَرَاءَ: «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ» رواه الترمذي عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

اعْمَلُوا لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَاجْعَلُوا رَصِيدَاً لِأَنْفُسِكُمْ عِنْدَ اللهِ تعالى، بِمَا آتَاكُمُ اللهُ تعالى مِنْ عِلْمٍ، فَالدُّنْيَا ظِلٌّ زَائِلٌ، وَعَرَضٌ حَائِلٌ.

لَا تُفَكِّرُوا في الجَمْعِيَّاتِ الخَيْرِيَّةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الأَطِبَّاءُ عَلَى مُخْتَلَفِ اخْتِصَاصَاتِكُمْ: أُنَاشِدُكُمُ اللهَ تعالى، لَا تُفَكِّرُوا في الجَمْعِيَّاتِ الخَيْرِيَّةِ، حَيْثُ تُحَوِّلُونَ مَرْضَاكُمْ إِلَيْهَا.

إِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ أَنَّ جُلَّ أَمْوَالِ الجَمْعِيَّاتِ هِيَ مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ، فَلَا تَتَطَلَّعُوا إلى أَمْوَالِ الزَّكَاةِ لِتَأْخُذُوا مِنْهَا أُجُورَاً لِعِلَاجِ مَرْضَاكُمْ الفُقَرَاءِ، لِأَنَّ وَاقِعَنَا مَرِيرٌ، الفُقَرَاءُ كَثِيرُونَ وَهُمْ بِحَاجَةٍ في هَذِهِ الآوِنَةِ إلى تِلْكَ الزَّكَاةِ مِنْ أَجْلِ تَرْمِيمِ بُيُوتِهِمْ، بِحَاجَةٍ إلى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، بِحَاجَةٍ إلى وَقُودٍ، بِحَاجَةٍ إلى كِسَاءٍ، بِحَاجَةٍ إلى سَكَنٍ.

بِاللهِ عَلَيْكُمْ، لَا تَتَطَلَّعُوا إلى أَمْوَالِ الزَّكَاةِ كَغَيْرِكُمْ، المَدَارِسُ الشَّرْعِيَّةُ تَتَطَلَّعُ إلى أَمْوَالِ الزَّكَاةِ، المَسَاجِدُ تَتَطَلَّعُ إلى أَمْوَالِ الزَّكَاةِ، الجَمْعِيَّاتُ الخَيْرِيَّةُ تَتَطَلَّعُ إلى أَمْوَالِ الزَّكَاةِ، الكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ يَتَطَلَّعُ إلى أَمْوَالِ الزَّكَاةِ، فَاتْرُكُوا أَمْوَالَ الزَّكَاةِ لِمَصَارِفِهَا الذينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تعالى في القُرْآنِ الكَرِيمِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الأَطِبَّاءُ عَلَى مُخْتَلَفِ اخْتِصَاصَاتِكُمْ: تَذَكَّرُوا قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَكَمْ سُلَامَى في جَسَدِكُمْ، فَأَيْنَ تِلْكَ الصَّدَقَاتُ عَلَى تِلْكَ السُّلَامَاتِ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الأَطِبَّاءُ عَلَى مُخْتَلَفِ اخْتِصَاصَاتِكُمْ: اسْتَغِلُّوا نِعْمَةَ اللهِ تعالى عَلَيْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ اللهُ تعالى مِنْ عِلْمٍ في رَحْمَةِ هَؤُلَاءِ المَرْضَى، وَاجْعَلُوا رَصِيدَ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ تعالى، وَأَنْتُمْ تَسْتَحْضِرُونَ قَوْلَهُ تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرَاً وَأَعْظَمَ أَجْرَاً﴾.

وَسَامِحُونِي أَن أَقُولَ لَكُمْ: اجْعَلُوا مِنْ فَصْلِ الشِّتَاءِ مَعَ المَرْضَى الفُقَرَاءِ فَتْرَةَ اسْتِرَاحَتِكُمْ، وَفَتْرَةَ اسْتِجْمَامِكُمْ، عِوَضَاً مِنْ سَفَرِكُمْ في مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا فَتْرَةً مِنَ الزَّمَنِ، وَقَدْ أَغْلَقْتُمْ عِيَادَتِكُمْ بِدُونِ مُقَابِلٍ، مِنْ أَجْلِ رَاحَتِكُمْ، وَصَرَفْتُمْ مَا قَدَّرَ اللهُ تعالى أَنْ تَصْرِفُوهُ.

عَالِجُوا المَرْضَى الفُقَرَاءَ بِدُونِ مُقَابِلٍ مَادِّيٍّ، عِوَضَاً مِنْ سَفَرِكُمْ، وَاللهِ سَتَجِدُونَ لَذَّةَ ذَلِكَ في قُلُوبِكُمْ، لِأَنَّ سَفَرَكُمْ أَوْقَفَ دَخْلَكُمْ، وَأَنْفَقْتُمْ مِمَّا ادَّخَرْتُمْ؛ وَاللهِ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ سَفَرِكُمْ، لِأَنَّ المَرْضَى الفُقَرَاءَ بِحَاجَةٍ إِلَيْكُمْ، فَالرَّاحِمُونَ يَرٍحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، أَغِيثُوا تُغَاثُوا.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَصُبَّ عَلَيْنَا الرَّحْمَةَ صَبَّاً، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الرُّحَمَاءِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 26/ جمادى الأولى /1440هـ، الموافق: 1/ شباط / 2019م