34ـ بر الوالدين :صلة رحم الوالدين

 

بر الوالدين

34ـ صلة رحم الوالدين

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ مِنْ حُقُوقِ الوَالِدَيْنِ عَلَى الوَلَدِ بَعْدَ وَفَاتِهِمَا صِلَةَ رَحِمِهِمَا، وَبِرَّ أَصْدِقَائِهِمَا، لِمَا روى الإمام الحاكم عَنْ مَالِكَ بْنَ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِمَا؟

قَالَ: «نَعَمُ، الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا وَالاسْتِغْفَارُ لَهُمَا وَإِنْفَاذُ عُهُودِهِمَا وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّذِي لَا رَحِمَ لَكَ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِمَا».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ صِلَةَ قَرَابَةِ الوَالِدَيْنِ، وَأَحَقَّ مَنْ تَصِلُهُ بَعْدَ مَوْتِهِمَا هُمْ أَبْنَاءُ الوَالِدَيْنِ، سَوَاءٌ كَانُوا إِخْوَةً أَشِقَّاءَ، أَو إِخْوَةً لِأَبٍ، أَو إِخْوَةً لِأُمٍّ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانُوا صِغَارَاً قُصَّرَاً، لِأَنَّهُمْ في هَذِهِ الحَالَةِ يَكُونُونَ بِحَاجَةٍ إلى عَطْفٍ وَبِرٍّ، فَلِذَلِكَ مِنْ أَصْدَقِ البِرِّ للأَبَوَيْنِ أَنْ تَصِلَ وَتَعْطِفَ عَلَى أَبْنَائِهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا، فَمَنِ ابْتَلَاهُ اللهُ تعالى فَكَانَ أَكْبَرَ إِخْوَتِهِ فَقَدْ صَارَ دَيْنَاً عَلَيْهِ أَنْ يَفِيَ لِأَبَوَيْهِ بَعْدَ وَفَاتِهِمَا، فَيُحْسِنَ إلى إِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانُوا يَتَامَى.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ ذَكَرَ الفُقَهَاءُ أَنَّ الإِحْسَانَ إلى اليَتِيمِ عَلَى مَرَاتِبَ، أَعْلَاهَا: اليَتِيمُ القَرِيبُ، وَأَقْرَبُ القَرِيبِ إِذَا كَانُوا إِخْوَةً لَكَ، أَشِقَّاءَ كَانُوا، أَو لِأَبٍ، أَو لِأُمٍّ.

فَإِنَّ الإِخْوَةَ إِذَا فَقَدُوا الأَبَ يَحْتَاجُونَ إلى مَنْ يَسُدُّ لَهُمْ ذَلِكَ الفَرَاغَ الذي كَانَ فِيهِ الأَبُ، يَحْتَاجُونَ إلى أَخِيهِمُ الكَبِيرِ في كَلِمَةٍ حَنُونَةٍ، أَو عَطْفٍ، أَو بِرٍّ، أَو إِحْسَانٍ، أَو دَفْعِ شِدَّةٍ أَو كُرْبَةٍ، أَو جَلْبِ نَفْعٍ؛ فَإِذَا قَابَلَ الأَخُ إِخْوَتَهُ بِهَذَا العَطْفِ، وَهَذَا البِرِّ، وَهَذَا الحَنَانِ، وَهَذِهِ الرِّعَايَةِ، كَانَ أَصْدَقَ مَا يَكُونُ في بِرِّهِ لِوَالِدَيْهِ.

لِذَلِكَ كَانَ مِنْ أَشَدِّ مَا يَكُونُ عَلَى اليَتِيمِ أَنْ يُبْتَلَى بِأَخٍ يُسِيءُ إِلَيْهِ وَلَا يُحْسِنُ إِلَيْهِ، فَخَيْرُ مَا يُوصَى بِهِ مَنْ فَقَدَ وَالِدَيْهِ وَخَلَّفَا لَهُ أَبْنَاءً وَبَنَاتٍ يَحْتَاجُونَ إلى عَطْفِهِ وَرِعَايَتِهِ، خَيْرُ مَا يُوصَى بِهِ هَذَا الوَلَدُ أَنْ يَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ عَطْفِهِ وَحَنَانِهِ عَلَى أُولَئِكَ الصِّبْيَةِ الضَّعَفَةِ، وَأَنْ يَحْتَسِبَ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِدْخَالَ الـسُّرُورِ عَلَيْهِمْ وَرِعَايَتَهُمْ.

زَوَاجُ سَيِّدِنَا جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا سَيِّدُنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَضْرِبُ لَنَا أَرْوَعَ مَثَلٍ في بِرِّهِ لِوَالِدِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ رِعَايَةِ أَخَوَاتِهِ.

روى الإمام مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَتَلَاحَقَ بِي وَتَحْتِي نَاضِحٌ (هُوَ الجَمَلُ الذي يُسْتَقَى عَلَيْهِ) لِي قَدْ أَعْيَا، وَلَا يَكَادُ يَسِيرُ، قَالَ: فَقَالَ لِي: «مَا لِبَعِيرِكَ؟».

قَالَ: قُلْتُ: عَلِيلٌ.

قَالَ: فَتَخَلَّفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَزَجَرَهُ وَدَعَا لَهُ، فَمَا زَالَ بَيْنَ يَدَيِ الإِبِلِ قُدَّامَهَا يَسِيرُ.

قَالَ: فَقَالَ لِي: «كَيْفَ تَرَى بَعِيرَكَ؟».

قَالَ: قُلْتُ: بِخَيْرٍ قَدْ أَصَابَتْهُ بَرَكَتُكَ.

قَالَ: «أَفَتَبِيعُنِيهِ؟» فَاسْتَحْيَيْتُ، وَلَمْ يَكُنْ لَنَا نَاضِحٌ غَيْرُهُ.

قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَبِعْتُهُ إِيَّاهُ عَلَى أَنَّ لِي فَقَارَ ظَهْرِهِ حَتَّى أَبْلُغَ المَدِينَةَ (أَيْ: خَرَزَاتِهِ، أَيْ: مَفَاصِلِ عِظَامِهِ، وَاحِدَتُهَا فَقَارَةٌ؛ وَالمُرَادُ رُكُوبُهُ).

قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي عَرُوسٌ، فَاسْتَأْذَنْتُهُ، فَأَذِنَ لِي، فَتَقَدَّمْتُ النَّاسَ إِلَى المَدِينَةِ حَتَّى انْتَهَيْتُ، فَلَقِيَنِي خَالِي، فَسَأَلَنِي عَنِ البَعِيرِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا صَنَعْتُ فِيهِ، فَلَامَنِي فِيهِ.

قَالَ: وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِي حِينَ اسْتَأْذَنْتُهُ: «مَا تَزَوَّجْتَ؟ أَبِكْرَاً أَمْ ثَيِّبَاً؟».

فَقُلْتُ لَهُ: تَزَوَّجْتُ ثَيِّبَاً.

قَالَ: «أَفَلَا تَزَوَّجْتَ بِكْرَاً تُلَاعِبُكَ وَتُلَاعِبُهَا؟».

فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، تُوُفِّيَ وَالِدِي ـ أَوِ اسْتُشْهِدَ ـ وَلِي أَخَوَاتٌ صِغَارٌ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ إِلَيْهِنَّ مِثْلَهُنَّ فَلَا تُؤَدِّبُهُنَّ، وَلَا تَقُومُ عَلَيْهِنَّ، فَتَزَوَّجْتُ ثَيِّبَاً لِتَقُومَ عَلَيْهِنَّ وَتُؤَدِّبَهُنَّ.

قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ غَدَوْتُ إِلَيْهِ بِالبَعِيرِ، فَأَعْطَانِي ثَمَنَهُ وَرَدَّهُ عَلَيَّ.

لَقَدْ ذَكَرَ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَبَبَ زَوَاجِهِ بِالثَّيِّبِ، وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَخَوَاتِهِ اللَّوَاتِي تَرَكَهُنَّ وَالِدُهُ لَهُ، فَكَانَ مِنْ بِرِّهِ بِوَالِدِهِ أَنْ تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ لَا البِكْرَ، وَآثَرَ بِحُظُوظِهِ رِعَايَةً لِحَقِّ وَالِدِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَذَلِكَ في صِلَةِ أَرْحَامِهِ الذينَ هُمْ مِنْ أَبِيهِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ بِرِّ الوَالِدَيْنِ بَعْدَ وَفَاتِهِمَا صِلَةُ رَحِمِهِمَا، مِنْ إِخْوَةٍ أَشِقَّاءَ، أَو إِخْوَةٍ لِأَبٍ، أَو لِأُمٍّ، ثُمَّ صِلَةُ العَمِّ وَالعَمَّةِ، وَالخَالِ وَالخَالَةِ، وَهَؤُلَاءِ مِنَ الأَرْحَامِ الذينَ يَجِبُ عَلَيْنَا وَصْلُهُمْ في سَائِرِ الأَحْوَالِ، وَخَاصَّةً بَعْدَ وَفَاةِ الوَالِدَيْنِ، وَصِلَةُ هَؤُلَاءِ سَبَبٌ لِوُجُودِ البَرَكَةِ في العُمُرِ وَالرِّزْقِ.

روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ (يُمَدَّ لَهُ في عُمُرِهِ وَيُؤَخَّرَ أَجَلُهُ وَيُخَلَّدَ ذِكْرُهُ) فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ».

وَأَوْلَى الرَّحِمِ صِلَةً هُمُ الإِخْوَةُ وَالأَخَوَاتُ، وَخَاصَّةً بَعْدَ وَفَاةِ الأَبَوَيْنِ، لِأَنَّ صِلَتَهُمْ فِيهَا صِلَةُ رَحِمٍ، وَفِيهَا البِرُّ بِالوَالِدَيْنِ بَعْدَ وَفَاتِهِمَا.

وَفِي الخِتَامِ: لِنَسْمَعْ هَذَا الحَدِيثَ الشَّرِيفَ: «إِنَّ أَعْجَلَ الطَّاعَةِ ثَوَابَاً صِلَةُ الرَّحِمِ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ البَيْتِ لِيَكُونُوا فَجَرَةً، فَتَنْمُو أَمْوَالُهُمْ، وَيَكْثُرُ عَدَدُهُمْ إِذَا تَوَاصَلُوا، وَمَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَتَوَاصَلَونَ فَيَحْتَاجُونَ» رواه ابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ بِبِرِّ الوَالِدَيْنِ أَحْيَاءً وَمَيْتِينَ، وَذَلِكَ بِصِلَةِ الإِخْوَةِ وَالأَخَوَاتِ، وَالأَعْمَامِ وَالعَمَّاتِ، وَالأَخْوَالِ وَالخَالَاتِ، فَهَذَا مِنْ أَجَلِّ البِرِّ بِالوَالِدَيْنِ بَعْدَ وَفَاتِهِمَا.

اللَّهُمَّ حَقِّقْنَا بِذَلِكَ. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 28/ جمادى الأولى /1440هـ، الموافق: 3/ شباط / 2019م