2ـ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ﴾ : تدبير الله خير من تدبيرنا

 

﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ﴾

2ـ تدبير الله خير من تدبيرنا

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: العِبْرَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةُ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، أَنْ نَعْلَمَ جَمِيعَاً عِلْمَ اليَقِينِ بِأَنَّ تَدْبِيرَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَنَا خَيْرٌ مِنْ تَدْبِيرِنَا لِأَنْفُسِنَا، وَاخْتِيَارَ اللهِ لَنَا هُوَ خَيْرٌ مِنِ اخْتِيَارِنَا لِأَنْفُسِنَا، لِذَا وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نُفَوِّضَ أُمُورَنَا إلى اللهِ تعالى، وَأَنْ لَا نَيْأَسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تعالى، إِذَا جَاءَ القَدَرُ عَلَى خِلَافِ مَا نُرِيدُ، لِأَنَّ اللهَ تعالى يَعْلَمُ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ.

تَدْبِيرُ اللهِ خَيْرٌ مِنْ تَدْبِيرِنَا:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَلَمْ يَقُلْ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئَاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾؟ أَلَمْ يَقُلْ: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرَاً كَثِيرَاً﴾؟

انْظُرُوا في قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ سَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَحَبَّ وَلَدَهُ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَانَتْ نَتِيجَةُ هَذَا الحُبِّ أَنْ يُلْقَى سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في غَيَابَتِ الجُبِّ ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾.

إِلْقَاءُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في الجُبِّ أَمْرٌ خَطِيرٌ وَعَظِيمٌ وَفَظِيعٌ، فَكَانَتْ نَتِيجَةُ ذَلِكَ، أَنْ يُكَرَّمَ في بَيْتِ عَزِيزِ مِصْرَ ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدَاً﴾.

هَذَا الإِكْرَامُ في بَيْتِ عَزِيزِ مِصْرَ شَيْءٌ رَائِعٌ وَحَسَنٌ وَجَمِيلٌ، وَقَدْ يَتَمَنَّاهُ كُلُّ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ مَا هِيَ نَتِيجَةُ هَذَا؟ لَقَدْ كَانَتْ نَتِيجَتُهُ أَنْ يَدْخُلَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ السِّجْنَ ﴿قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءَاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾.

دُخُولُ السِّجْنِ شَيْءٌ مَكْرُوهٌ وَمُزْعِجٌ، وَلَكِنْ كَانَتْ نَتِيجَتُهُ أَنْ أَصْبَحَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَزِيزَ مِصْرَ ﴿وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ﴾.

اللهُ تَعالى ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قِصَّةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تُعَلِّمُنَا بِحَقٍّ أَنَّ اللهَ تعالى فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، فَالكَوْنُ يَسِيرُ فَوْقَ مُسْتَوَى إِدْرَاكِنَا، فَعَلَيْنَا بِالأَخْذِ بِالأَسْبَابِ ثُمَّ نَدَعُ الأُمُورَ لِخَالِقِنَا يُسَيِّرُنَا وَيُسَيِّرُ هَذَا الكَوْنَ كَمَا شَاءَ وِفْقَ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ.

إِذَا رَأَى أَحَدُنَا أَحْدَاثَاً تُصِيبُهُ بِالإِحْبَاطِ وَاليَأْسِ وَلَمْ يَفْهَمِ الحِكْمَةَ مِنْ وَرَائِهَا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَيْأَسَ وَلَا يَتَذَمَّرَ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَثِقَ في تَدْبِيرِ اللهِ تعالى لَهُ، فَهُوَ تَبَارَكَ وتعالى مَالِكُ المُلْكِ، وَهُوَ خَيْرُ مَنْ يُدَبِّرُ لِخَلْقِهِ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ وَلَا نَعْلَمُ أَيْنَ يَكْمُنُ الخَيْرُ؟

هَذِهِ السُّورَةُ المُبَارَكَةُ سُورَةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هِيَ التي تَحَدَّثَتْ عَنِ اليَأْسِ، قَالَ تعالى: ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيَّاً﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا﴾.

هَذِهِ الآيَاتُ تُعَلِّمُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ للإِنْسَانِ أَنْ يَصِلَ إلى قَلْبِهِ اليَأْسُ، لِمَاذَا اليَأْسُ وَاللهُ تعالى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؟

فَسَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَغْمَ كُلِّ الظُّرُوفِ الصَّعْبَةِ وَالقَاسِيَةِ التي مَرَّتْ عَلَيْهِ مِنَ الجُبِّ إلى السِّجْنِ لَمْ تُفْقِدْهُ الأَمَلَ، وَلَمْ يَيْأَسْ وَلَمْ يَقْنَطْ، بَلْ حَقَّقَ النَّجَاحَ في دُنْيَاهُ وَدِينِهِ.

لَقَدْ نَجَحَ في دُنْيَاهُ بِفَضْلِ اللهِ تعالى ثُمَّ بِحِكْمَتِهِ ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾.

وَنَجَحَ في دِينِهِ حِينَ تَصَدَّى لِامْرَأَةِ العَزِيزِ، وَرَفَضَ الوُقُوعَ في الفَاحِشَةِ ﴿قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾. ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَـصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: تَدْبِيرُ اللهِ تعالى خَيْرٌ مِنْ تَدْبِيرِنَا لِأَنْفُسِنَا، عَلَيْنَا بِالأَخْذِ بِالأَسْبَابِ، ثُمَّ نَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ تعالى، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ تعالى كَفَاهُ.

هَذَا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَوَلَّاهُ اللهُ تعالى، وَكَفَاهُ سَائِرَ الهُمُومِ، فَجَعَلَ القَافِلَةَ التي تَسِيرُ في الصَّحْرَاءِ تَحْتَاجُ إلى المَاءِ، حَتَّى يُخْرِجُوهُ مِنَ الجُبِّ.

وَحَرَمَ عَزِيزَ مِصْرَ مِنَ الأَبْنَاءِ لِيَتَبَنَّى سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

ثُمَّ جَعَلَ المَلِكَ يَرَى رُؤْيَا دَفَعَتْهُ لِأَنْ يَبْحَثَ عَنْ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَتَّى يُخْرِجَهُ مِنَ السِّجْنِ.

ثُمَّ جَعَلَ حَاجَةَ مِصْرَ كُلِّهَا للطَّعَامِ لِيُصْبِحَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَزِيزَ مِصْرَ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا تَوَلَّى اللهُ تعالى أُمُورَنَا هَيَّأَ لَنَا أَسْبَابَ السَّعَادَةِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ حَيْثُ لَا نَعْلَمُ.

عَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِالأَسْبَابِ، ثُمَّ نُفَوِّضَ أُمُورَنَا إلى اللهِ تعالى في جَمِيعِ شُؤُونِنَا الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ، الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَلْنَكُنْ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ اللهَ مَعَنَا مَا دُمْنَا قَائِمِينَ بِحُقُوقِهِ مُمْتَثِلِينَ أَمْرَهُ وَمُجْتَنِبِينَ نَهْيَهُ.

وَلْنَذْكُرْ جَمِيعَاً قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَجَبَاً لِأَمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرَاً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرَاً لَهُ» رواه الإمام مسلم عَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَلْنَتَذَكَّرْ قَوْلَهُ تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ﴾.

اللَّهُمَّ دَبِّرْ لَنَا فَإِنَّا لَا نُحْسِنُ التَّدْبِيرَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ حَوْلِنَا وَتَدْبِيرِنَا وَقُوَّتِنَا إلى حَوْلِكَ وَتَدْبِيرِكَ وَقُوَّتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

اللَّهُمَّ يَا مَنْ قُلْتَ في كِتَابِكَ العَظِيمِ: ﴿اللهُ وَلِيُّ الذينَ آمَنُوا﴾. اجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَلَّيْتَهُمْ بِعَيْنِ عِنَايَتِكَ وَرِعَايَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

**      **    **

الثلاثاء: 7/ جمادى الآخر /1440 هـ، الموافق: 12/ شباط / 2019م