3ـ ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ﴾ :يجب لم شمل الأسرة

 

﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ﴾

3ـ يجب لم شمل الأسرة

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: العِبْرَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تُعَلِّمُنَا وُجُوبَ العَدْلِ بَيْنَ الأَوْلَادِ فِيمَا نَمْلِكُ، وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ سَلَامَةِ العَلَاقَةِ بَيْنَ الأَبْنَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ الأَبُ عَلَى حَذَرٍ شَدِيدٍ مِنْ مُجَانَبَةِ العَدْلِ بَيْنَ أَبْنَائِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَد يُؤَدِّي إلى إِشْعَالِ نَارِ العَدَاوَةِ بَيْنَ الإِخْوَةِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: حَقَّاً: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾. الأَبْنَاءُ في الأُسْرَةِ الوَاحِدَةِ قَدْ تَشْتَعِلُ بَيْنَهُمْ نَارُ العَدَاوَةِ بِسَبَبِ القُرْبِ وَالاحْتِكَاكِ مَعَ بَعْضِهِمْ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا غَرَابَةَ فِيهِ، وَقَدْ حَصَلَ هَذَا الأَمْرُ مِنْ قِبَلِ ابْنَيْ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَحَدُهُمَا كَانَ يَجْرِي الشَّرُّ في دَمِهِ، وَالآخَرُ كَانَ يَجْرِي الخَيْرُ في دَمِهِ.

وَكَأَنَّ الحَقَّ جَلَّ وَعَلَا أَرَادَ أَنْ يُقَدِّمَ للبَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ نَمُوذَجَاً للشَّرِّ، وَنَمُوذَجَاً للخَيْرِ مِنَ ابْنَيْ آدَمَ، وَمَاذَا يَجِبُ فِعْلُهُ أَثْنَاءَ وُقُوعِ الشَّرِّ ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانَاً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَيْسَتِ الغَرَابَةُ في اشْتِعَالِ نَارِ الشَّرِّ في الأُسْرَةِ الوَاحِدَةِ، وَلَكِنَّ الغَرَابَةَ إِذَا لَمْ تُطْفَأْ تِلْكَ النَّارُ في تِلْكَ العَائِلَةِ مُبَاشَرَةً، وَخَاصَّةً بَعْدَ نَبَأِ ابْنَيْ آدَمَ، وَقِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

مَاذَا اسْتَفَادَ أَبْنَاؤنَا مِنْ قِصَّةِ ابْنَيْ آدَمَ، وَمِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟

هَلْ مِنَ المَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ الجَمِيعُ كَقَابِيلَ، وَكَإِخْوَةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟

يَجِبُ لَمُّ شَمْلِ الأُسْرَةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قِصَّةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تُعَلِّمُنَا وُجُوبَ لَمِّ شَمْلِ الأُسْرَةِ، التي هِيَ نَوَاةُ المُجْتَمَعِ، وَإِلَّا حَاقَ الشَّرُّ بِالمُجْتَمَعِ كُلِّهِ.

هَذِهِ القِصَّةُ عَلَّمَتْنَا وُجُوبَ العَدْلِ بَيْنَ الأَبْنَاءِ، فَكَانَ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَادِلَاً بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِيمَا يَمْلِكُ، حَتَّى في مَسْأَلَةِ الحُبِّ، فَهُمْ أَقَرُّوا أَنَّ أَبَاهُمْ يُحِبُّهُمْ جَمِيعَاً ﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا﴾. فَهُوَ يُحِبُّهُمْ، وَلَكِنَّ حُبَّهُ لِسَيِّدِنَا يُوسُفَ وَأَخِيهِ كَانَ أَشَدَّ، وَهَذَا لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ، روى الحاكم وأبو داود عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ، وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا أَمْلِكُ».

وَمَنْ لَمْ يَعْدِلْ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِيمَا يَمْلِكُ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ فَقَدْ أَسَاءَ وَمَزَّقَ كِيَانَ أُسْرَتِهِ ابْتِدَاءً، وَسَوْفَ يَنْدَمُ وَلَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ، وَسَوْفَ يُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ هُوَ الذي مَزَّقَ كِيَانَ أُسْرَتِهِ، وَكَانَ سَبَبَاً في تَمْزِيقِ كِيَانَ المُجْتَمَعِ؛ مِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ وَحِرْصَاً مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُسَرِنَا قَالَ لَنَا: «اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي العَطِيَّةِ» رواه الإمام البخاري.

فَإِذَا لَمْ نُسَوِّ بَيْنَ أَبْنَائِنَا فَلَا يَلُومَنَّ أَحَدُنَا إِلَّا نَفْسَهُ، فَهَذَا سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ تَسْوِيَتِهِ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِيمَا يَمْلِكُ، وَكَانَ يُحِبُّهُم جَمِيعَاً، إِلَّا أَنَّ حُبَّهُ لِسَيِّدِنَا يُوسُفَ وَأَخِيهِ كَانَ أَشَدَّ، وَهَذَا لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ، كَانَتْ نَتِيجَةُ الأَبْنَاءِ العُقُوقَ.

بِسَبَبِ حُبِّ سَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِسَيِّدِنَا يُوسُفَ وَأَخِيهِ الذي هُوَ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ أَوْقَعَهُمْ في عُقُوقِ النُّبُوَّةِ، وَعُقُوقِ البُنُوَّةِ، وَعُقُوقِ الأُخُوَّةِ، فَقَالُوا: ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾. وَقَالُوا: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضَاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمَاً صَالِحِينَ﴾.

فَكَيْفَ بِأَبَوَيْنِ إِذَا لَمْ يَعْدِلَا فِيمَا يَقْدِرَانِ عَلَيْهِ بَيْنَ أَبْنَائِهِمْ؟ هَلْ يَتَوَقَّعَانِ البِرَّ مِنْ أَبْنَائِهِمَا لَهُمَا، أَمْ هَلْ يَتَوَقَّعَانِ البِرَّ لِبَعْضِهِمْ؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ.

أَيْنَ النَّمُوذَجُ في أَبْنَائِنَا؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَيْنَ النَّمُوذَجُ في أَبْنَائِنَا؟ هَذَا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ خَيْرَ نَمُوذَجٍ للصَّفْحِ وَالتَّسَامُحِ وَالعَفْوِ عَنْ إِخْوَتِهِ رَغْمَ شِدَّةِ الإِسَاءَةِ ﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.

نَمُوذَجٌ سَامٍ رَاقٍ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِتَابٍ، وَعِنْدَمَا حَضَرَ أَبَوَاهُ كَانَ أَسْمَى وَأَرْقَى ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدَاً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقَّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ البَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ﴾.

مَا ذَكَرَ قِصَّةَ الجُبِّ، وَمَا ذَكَرَ قِصَّةَ كَيْدِهِمْ، بَلْ ذَكَرَ قِصَّةَ سِجْنِهِ، وَعَلَّقَ الذي حَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِخْوَتِهِ بِنَزْغِ الشَّيْطَانِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَا أَحْوَجَنَا إلى العَدْلِ بَيْنَ أَبْنَائِنَا حَتَّى نَسْلَمَ عَلَى تَمَاسُكِ أُسَرِنَا التي هِيَ نَوَاةُ المُجْتَمَعِ، وَمَا أَحْوَجَ الأَبْنَاءَ إلى التَّنَافُسِ في مَيْدَانِ الخَيْرِ لَا في مَيْدَانِ الشَّرِّ، وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَرِيصَاً عَلَى الْتِزَامِ قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنَاً كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنَاً وَيُمْسِي كَافِرَاً، وَيُمْسِي مُؤْمِنَاً وَيُصْبِحُ كَافِرَاً؛ القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي؛ فَاكْـسِرُوا قِسِيَّكُمْ، وَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ، وَاضْرِبُوا بِسُيُوفِكُمُ الحِجَارَةَ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَى أَحَدِكُمْ بَيْتُهُ، فَلْيَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ» رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا للمُحَافَظَةِ عَلَى أُسَرِنَا وَنَحْنُ آبَاءَ، وَنَحْنُ إِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ. آمين.

**      **    **

الأربعاء: 8/ جمادى الآخر /1440 هـ، الموافق: 13/ شباط / 2019م