4ـ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ﴾ : حبل الكذب قصير

 

﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ﴾

4ـ حبل الكذب قصير

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: العِبْرَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تُعَلِّمُنَا أَنَّ حَبْلَ الكَذِبِ قَصِيرٌ، وَمَا أَفْلَحَ كَاذِبٌ، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً، وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ في الأَرْضِ.

قِصَّةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تُعْطِينَا دَرْسَاً بَلِيغَاً إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَعِيَ، وَتُعْطِي عِبْرَةً لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ.

لَقَدْ حَذَّرَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الكَذِبِ بِقَوْلِهِ: «وَإِيَّاكُمْ وَالكَذِبَ، فَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابَاً» رواه الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَمِنْ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الكَذِبِ أَنْ يَكْذِبَ الرَّجُلُ عَلَى وَالِدَيْهِ، وَأَنْ تَكْذِبَ الزَّوْجَةُ عَلَى زَوْجِهَا، وَمَنْ كَذَبَ عَلَى وَالِدَيْهِ فَهُوَ مَعَ غَيْرِهِمَا أَكْذَبُ، وَمَنْ كَذَبَتْ عَلَى زَوْجِهَا فَهُيَ مَعَ غَيْرِهِ أَكْذَبُ؛ وَحَبْلُ الكَذِبِ قَصِيرٌ، فَلْيُفَكِّرِ الكَاذِبُ في نَتِيجَةِ كَذِبِهِ، كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ أَمَامَ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ؟

الكَذِبُ عَلَى الوَالِدَيْنِ جَرِيمَةٌ كُبْرَى:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ الكَذِبَ عَلَى الوَالِدَيْنِ جَرِيمَةٌ كُبْرَى، وَتُوقِعُ الوَلَدَ في نِهَايَةِ المَطَافِ في مَوَاطِنِ الذُّلِّ وَسَوَادِ الوَجْهِ.

هَؤُلَاءِ إِخْوَةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَذَبُوا عَلَى أَبِيهِمْ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ.

لَقَدْ كَذَبُوا عَلَى أَبِيهِمُ ابْتِدَاءً قَبْلَ ارْتِكَابِ الجَرِيمَةِ ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدَاً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾؟

وَكَذَبُوا عَلَى أَبِيهِمْ بَعْدَ الانْتِهَاءِ مِنَ الجَرِيمَةِ ﴿وَجَاؤُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾.

لَقَدْ كَذَبُوا ابْتِدَاءً عِنْدَمَا لَبِسُوا ثِيَابَ النَّاصِحِينَ ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾. خُطَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ؛ أَلَمْ يَقُلْ إِبْلِيسُ لِسَيِّدِنَا آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾؟

وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾. ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾. وَهُمْ يَعْرِفُونَ أَنْفُسَهُمْ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ أَحْكَمُوا الجَرِيمَةَ، وَجَعَلُوا أَخَاهُمْ في غَيَابَةِ الجُبِّ، وَلَكِنْ شَاءَ اللهُ تعالى أَنْ يَرْفَعَهُ إلى عَرْشِ مِصْرَ، أَرَادُوا قَطْعَهُ وَأَرَادَ اللهُ وَصْلَهُ، أَرَادُوا مَوْتَهُ وَأَرَادَ اللهُ إِبْقَاءَهُ، هُمْ يَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ، وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ.

وَمِنْ مَكْرِهِمُ الكَذِبُ بِالقَولِ وَالفِعْلِ وَالحَالِ ﴿وَجَاؤُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ﴾. وَمَا أَكْثَرَ الذينَ يَقْتُلُونَ القَتِيلَ، وَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ بُكَاءً عَلَيْهِ.

جَاؤُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ، قَائِلِينَ: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾. يَكَادُ المُرِيبُ أَنْ يَقُولَ: خُذُونِي.

عَرَفَ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ القِصَّةَ أَنَّهَا كَذِبٌ في كَذِبٍ، مَا هَذَا الذِّئْبُ الذي جَرَّدَ يُوسُفَ مِنْ ثِيَابِهِ ثُمَّ أَكَلَهُ، أَلَمْ يُمَزِّقِ القَمِيصَ؟ أَيْنَ بَقِيَّةُ ثِيَابِهِ؟ أَلَمْ يُبْقِ الذِّئْبُ شَيْئَاً مِنْ جَسَدِهِ؟

مَا هِيَ نَتِيجَةُ هَذَا الكَذِبِ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نِهَايَةُ الكَذِبِ الفَضِيحَةُ عَاجِلَاً أَمْ آجِلَاً؛ لَا يَظُنُّ الكَاذِبُ أَنَّهُ إِذَا مَرَّ عَلَى كَذِبِهِ سَنَوَاتٌ انطَوَى كَذِبُهُ، وَانْتَهَتِ القَضِيَّةُ، رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ يُمْهِلُ وَلَا يُهْمِلُ، بَعْدَ سَنَوَاتٍ مِنَ الكَذِبِ ظَهَرَتِ الحَقِيقَةُ ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا العَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللهَ يَجْزِي المُتَصَدِّقِينَ * قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾. مَا الذي يَنْفَعُ الآنَ؟

انْظُرُوا إلى مَوْقِفِهِمْ أَمَامَ أَخِيهِمْ كَيْفَ حَالُهُمْ؟ ثُمَّ انْظُرُوا إلى مَوْقِفِهِمْ أَمَامَ أَبِيهِمْ ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ العِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ القَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾. مَا الذي يَنْفَعُ الآنَ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: العَاقِلُ لَا يَضَعُ نَفْسَهُ في مَوَاطِنِ الذُّلِّ وَالاعْتِذَارِ وَطَلَبِ العَفْوِ وَالسَّمَاحِ بَعْدَ سَوَادِ وَجْهِهِ أَمَامَ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ الكَذِبُ عَلَى الأَبَوَيْنِ وَالإِخْوَةِ.

أَمَّا امْرَأَةُ العَزِيزِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَمَّا كَذِبُ امْرَأَةِ العَزِيزِ فَحَدِّثْ عَنْهُ وَلَا حَرَجَ، لَقَدْ كَذَبَتْ عَلَى زَوْجِهَا ﴿وَاسْتَبَقَا البَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى البَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءَاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. كَذِبٌ وَوَقَاحَةٌ وَاتِّهَامٌ للبَرِيءِ، وَمَرَّ عَلَى الكَذِبِ سَنَوَاتٌ، وَلَكِنْ كَذِبُهَا في كِتَابٍ عِنْدَ رَبِّي لَا يَضِلُّ وَلَا يَنْسَى، وَاللهُ تعالى يُمْهِلُ وَلَا يُهْمِلُ، بَعْدَ سَنَوَاتٍ مِنَ الكَذِبِ، ظَنَّتِ امْرَأَةُ العَزِيزِ أَنَّ الصَّفْحَةَ طُوِيَتْ وَانْدَرَسَتْ، وَلَكِنْ يَأْبَى اللهُ تعالى إِلَّا أَنْ يَفْضَحَ الكَذَّابَ الذي أَصَرَّ عَلَى كَذِبِهِ ﴿فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ العَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾. مَاذَا يَنْفَعُ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَسْأَلُ اللهَ تعالى لِي وَلَكُمُ الصِّدْقَ في الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ وَالأَحْوَالِ. آمين.

**      **    **

الخميس: 9/ جمادى الآخر /1440 هـ، الموافق: 14/ شباط / 2019م