6ـ ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ﴾ : القدر ممزوج باللطف

 

﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ﴾

6ـ القدر ممزوج باللطف

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ العِبَرِ التي نَسْتَفِيدُهَا مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، أَنْ نَعْلَمَ عِلْمَ اليَقِينِ بِأَنَّ قَدَرَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ دَائِمَاً وَأَبَدَاً مَمْزُوجٌ بِاللُّطْفِ وَالعِنَايَةِ؛ عَرَفَ هَذَا مَنْ عَرَفَ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ.

هَذَا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، عِنْدَمَا دَخَلَ في المِحْنَةِ دَخَلَهَا وَهُوَ في سِنِّ الصِّغَرِ، دَخَلَهَا وَهُوَ طِفْلٌ، وَمَا ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ ضَعِيفَاً في لَحْظَةٍ مِنَ اللَّحَظَاتِ، وَمَا ثَبَتَ أَنَّهُ بَكَى، وَمَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَوَسَّلَ وَاسْتَغَاثَ بِأَحَدٍ مِنَ البَشَرِ، وَمَا كَانَ مَوْقِفُهُ مَوْقِفَاً لَيِّنَاً، بَلْ كَانَ مَوْقِفُهُ مَوْقِفَ رِجَالٍ عِظَامٍ مُنْذُ صِغَرِهِ، لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَشْعُرُ إِلَّا بِالسَّعَادَةِ؛ مِنْ أَيْنَ كَانَ لَهُ هَذَا؟ إِنَّهُ مِنَ اللهِ تعالى أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ.

القَدَرُ مَمْزُوجٌ بِاللُّطْفِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الإِيمَانُ شَأْنُهُ عَظِيمٌ وَعَظِيمٌ جِدَّاً، وَمَنْ أَيْقَنَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرَاً كَثِيرَاً﴾. يَجِدُ هَذَا في حَيَاتِهِ الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ.

لَقَدْ أَعْطَانَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ نَمَاذِجَ لِهَذَا القَرَارِ الإِلَهِيِّ، قَدْ يَكْرَهُ أَحَدُنَا أَمْرَاً، وَلَكِنْ لَو صَبَرَ عَلَيْهِ لَوَجَدَ خَيْرَاً عَظِيمَاً مِنْ خِلَالِهِ، وَهَذَا مَا تَجَسَّدَ في قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

فَهَذَا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ طِفْلٌ صَغِيرٌ ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾.

لَقَدْ أَوْحَى اللهُ تعالى إِلَيْهِ بَرْنَامَجَ حَيَاتِهِ، وَأَنَّهُ سَيُنَبِّئُ إِخْوَتَهُ بِمَا فَعَلُوهُ، وَسَوْفَ تَتَحَقَّقُ لَهُ الرُّؤْيَا التي رَآهَا، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ اللُّطْفِ الإِلَهِيِّ، لِأَنَّ مِحْنَتَهُ قَاسِيَةٌ وَعَظِيمَةٌ، طِفْلٌ يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِهِ، وَيُلْقَى في غَيَابَةِ الجُبِّ بِدُونِ شَفَقَةٍ وَلَا رَحْمَةٍ، أَمْرٌ لَا يُطَاقُ في ظَاهِرِ الأَمْرِ، وَلَكِنَّ الذي يُخَفِّفُ الوَطْأَةَ هُوَ اللُّطْفُ الإِلَهِيُّ.

هَذَا اللُّطْفُ الإِلَهِيُّ خَفَّفَ عَلَيْهِ صَدْمَةَ الإِخْوَةِ، وَخَفَّفَ عَلَيْهِ فِرَاقَ وَالِدِهِ، وَخَفَّفَ عَلَيْهِ صَدْمَةَ الظُّلْمِ، وَخَفَّفَ عَلَيْهِ صَدْمَةَ الغُرْبَةِ، وَخَفَّفَ عَلَيْهِ صَدْمَةَ العُبُودِيَّةِ، وَخَفَّفَ عَلَيْهِ صَدْمَةَ السِّجْنِ.

هَذَا اللُّطْفُ الإِلَهِيُّ رَبَطَ عَلَى قَلْبِهِ حَتَّى صَارَ مِنْ أَنْدَرِ خَلْقِ اللهِ تعالى لُبَّاً وَقَلْبَاً.

هَذَا اللُّطْفُ الإِلَهِيُّ جَاءَ مَعَ القَدَرِ، وَذَلِكَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تعالى حَتَّى لَا يُكَلِّفَ اللهُ عَبْدَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾.

لِنَكُنْ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ اللُّطْفَ الإِلَهِيَّ وَالبَلَاءَ كَجَنَاحَيْ طَائِرٍ يَصِلَانِ للعَبْدِ في لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ، وَرَحِمَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا ابْنَ عَطَاءِ اللهِ السَّكَنْدَرِيَّ عِنْدَمَا قَالَ: (مَنْ ظَنَّ انْفِكَاكَ لُطْفِهِ عَنْ قَدَرِهِ فَذَلِكَ لِقُصُورِ نَظَرِهِ).

فَسَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلِمَ عِلْمَ اليَقِينِ أَنَّ هَذَا البَلَاءَ هُوَ خَيْرٌ في حَقِّهِ، وَسَيَجْعَلُ اللهُ تعالى فِيهِ خَيْرَاً كَثِيرَاً، لِذَلِكَ كَانَ مَثَلَاً رَائِعَاً لِأَصْحَابِ البَلَاءِ، إِذَا حَذَوْا حَذْوَهُ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ لِإِخْوَتِهِ: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ﴾.

﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدَاً وَسَلَامَاً عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كُونُوا عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ البَلَاءَ مَمْزُوجٌ بِاللُّطْفِ مِنْ حَيْثُ نَدْرِي وَمِنْ حَيْثُ لَا نَدْرِي، وَكُلَّمَا عَظُمَ الإِيمَانُ في القَلْبِ كُلَّمَا عَرَفَ العَبْدُ هَذِهِ الحَقِيقَةَ.

هَذَا سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، تَزَامَنَ إِلْقَاؤُهُ في النَّارِ مَعَ اللُّطْفِ الإِلَهِيِّ، عِنْدَمَا تَوَجَّهَ الأَمْرُ إلى النَّارِ: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدَاً وَسَلَامَاً عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾.

﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَهَذِهِ السَّيِّدَةُ مَرْيَمُ يُخَفِّفُ عَنْهَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ صَدْمَةَ الابْتِلَاءِ، فَيَنْطِقُ سَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِكَيْ يَقُولَ لَهَا: ﴿أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيَّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبَاً جَنِيَّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنَاً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الـبَشَرِ أَحَدَاً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمَاً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إِنْسِيَّاً﴾.

حُجَّةٌ بَالِغَةٌ دَافِعَةٌ لَقَّنَهَا لِأُمِّهِ السَّيِّدَةِ مَرْيَمَ، فَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهَا، وَاسْتَرَاحَ قَلْبُهَا، وَسَكَنَ فُؤَادُهَا.

وَالأَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ اللهَ تعالى أَنْطَقَهُ أَمَامَ قَوْمِهَا كَذَلِكَ، قَالَ تعالى: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئَاً فَرِيَّاً * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيَّاً * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيَّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيَّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكَاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيَّاً * وَبَرَّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارَاً شَقِيَّاً * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيَّاً﴾.

﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَهَذَا سَيِّدُنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، عِنْدَمَا جَاءَهُ البَلَاءُ مَعَ قَوْمِهِ، حَيْثُ أَدْرَكَهُ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، جَاءَ اللُّطْفُ الإِلَهِيُّ مَمْزُوجَاً مَعَ هَذَا البَلَاءِ، قَالَ تعالى مُخْبِرَاً عَنْ هَذَا: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَا شَيْءَ يَبْعَثُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالطُّمَأْنِينَةِ عِنْدَ نُزُولِ القَضَاءِ مِثْلُ التَّسْلِيمِ للهِ تعالى في قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَالبُعْدِ عَنِ التَّسَخُّطِ وَالضَّجَرِ، لِأَنَّ القَدَرَ النَازِلَ بِحَقٍّ دَائِمَاً وَأَبَدَاً مُمْزُوجٌ بِاللُّطْفِ الإِلَهِيِّ.

احْفَظُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ هَذِهِ الحِكْمَةَ العَطَائِيَّةَ: (مَنْ ظَنَّ انْفِكَاكَ لُطْفِهِ عَنْ قَدَرِهِ فَذَلِكَ لِقُصُورِ نَظَرِهِ).

وَقِصَّةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَكْبَرُ شَاهِدٍ عَلَى ذَلِكَ.

نَسْأَلُكَ يَا رَبَّنَا إِيمَانَاً يُبَاشِرُ قُلُوبَنَا. آمين.

 

**      **    **

الاثنين: 20/ جمادى الآخر /1440 هـ، الموافق: 25/ شباط / 2019م