15ـ لن يتخلى الله تعالى عن أوليائه

﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ﴾

15ـ لن يتخلى الله تعالى عن أوليائه

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَتَعَلَّمُ دُرُوسَاً عَظِيمَةً، مِنْ هَذِهِ الدُّرُوسِ، أنَّ اللهُ تعالى يُؤَيِّدُ أَوْلِيَاءَهُ في أَحْلَكِ الظُّرُوفِ وَأَشَدِّهَا، وَيَجْعَلُ لِأَوْلِيَائِهِ في تِلْكَ الظُّرُوفِ القَاسِيَةِ فَرَجَاً وَمَخْرَجَاً.

مِنْ هَذِهِ الدُّرُوسِ، أَنْ يُعَلِّقَ العَبْدُ قَلْبَهُ بِاللهِ تعالى، وَيَثِقُ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾.

وَأَنْ يَعْلَمَ قُوَّةَ التَّلَازُمِ بَيْنَ الشِّدَّةِ وَالفَرَجِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرَاً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرَاً﴾. وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» رواه الحاكم عَنِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

اتِّهَامُ البَرِيءِ جَرِيمَةٌ كُبْرَى:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ اتِّهَامَ البَرِيءِ جَرِيمَةٌ كُبْرَى، وَظُلْمٌ شَدِيدُ الوُقُوعِ عَلَى النَّفْسِ، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمَاً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئَاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانَاً وَإِثْمَاً مُبِينَاً﴾.

لَقَدْ قَلَبَتِ امْرَأَةُ العَزِيزِ القَضِيَّةَ ضِدَّ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَادَّعَتْ أَنَّ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ الذي يُلَاحِقُهَا، وَيُرَاوِدُهَا عَنْ نَفْسِهَا عِنْدَمَا قَالَتْ لِسَيِّدِهَا: ﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءَاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. وَلَيْسَ لَدَى سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الأَدِلَّةِ مَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُبَرِّئَ بِهَا نَفْسَهُ، لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَمَغْلُوبٌ عَلَى أَمْرِهِ، خَادِمٌ دَاخِلَ البَيْتِ، مَنْ سَيُدَافِعُ عَنْهُ في مِثْلِ هَذَا الحَالِ، إِلَّا مَنْ قَالَ في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾.

نَعَمْ يُدَافِعُ عَنْهُ مَنْ بِيَدِهِ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَأَنْطَقَ اللهُ تعالى طِفْلَاً مَا زَالَ في المَهْدِ ـ كَمَا قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ ـ وَشَهِدَ شَهَادَةَ حَقٍّ، وَجَعَلَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ مُؤَيَّدَةً بِالبَيِّنَاتِ الوَاضِحَةِ ﴿إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾.

وَهُنَا أَصْبَحَ العَزِيزُ أَمَامَ الأَمْرِ الوَاقِعِ، عَرَفَ أَنَّ زَوْجَتَهُ هِيَ المُجْرِمَةُ، وَسَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ البَرِيءُ.

نَعَمْ لَقَدْ أَظْهَرَ اللهُ تعالى بَرَاءَةَ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِطَرِيقَةٍ مَا كَانَ يُفَكِّرُ فِيهَا أَحَدٌ أَو يَتَصَوَّرُهَا، وَمَا كَانَ يَظُنُّ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَأْتِيَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِ امْرَأَةِ العَزِيزِ لِيَشْهَدَ شَهَادَةَ الحَقِّ وَيُبَرِّئَ سَاحَتَهُ.

نَعَمْ إِنَّهَا العِنَايَةُ الإِلَهِيَّةُ، وَنُصْرَةُ اللهِ تعالى لِأَوْلِيَائِهِ، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾. وَالقَائِلُ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾.

يَا أَسَفَاهُ عَلَى بَعْضِ الرِّجَالِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ وَصَلَ ضَعْفُ الغَيْرَةِ بِبَعْضِ الرِّجَالِ أَنْ يَرَى زَوْجَتَهُ تُرَاوِدُ شَابَّاً، ثُمَّ لَا يَتَمَعَّرُ وَجْهُهُ وَلَا يَغْضَبُ لِمَحَارِمِهِ فَضْلَاً أَنْ يَغْضَبَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ.

يَا أَسَفَاهُ عَلَى بَعْضِ الرِّجَالِ الذينَ يَرَوْنَ الخَبَثَ في مَحَارِمِهِمْ وَيَسْكُتُونَ، بَلْ يَجْعَلُونَ الحَقَّ بَاطِلَاً وَالبَاطِلَ حَقَّاً، لَقَدْ صَدَقَ فِيهِمْ حَدِيثُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ دَيُّوثٌ» رواه أبو داود الطَّيَالِسِيُّ عَنْ عَمَّارٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَفيِ رِوَايَةٍ للحاكم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ بوَالِدَيْهِ، وَالدَّيُّوثُ، وَرَجِلَةُ النِّسَاءِ».

وفي رِوَايَةٍ للبيهقي: «ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَبَدَاً: الدَّيُّوثُ مِنَ الرِّجَالِ، وَالرَّجُلَةُ مِنَ النِّسَاءِ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ».

فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَّا مُدْمِنُ الْخَمْرِ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الدَّيُّوثُ مِنَ الرِّجَالِ؟

قَالَ: «الَّذِي لَا يُبَالِي مَنْ دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ».

قُلْنَا: فَالرَّجُلَةُ مِنَ النِّسَاءِ؟

قَالَ: «الَّتِي تَشَبَّهُ بِالرِّجَالِ».

هَذَا الذي يَعْتَبِرُ نَفْسَهُ عَزِيزَ مِصْرَ لَمْ يَغْضَبْ لَمَّا تَأَكَّدَ أَنَّ زَوْجَتَهُ فِيهَا فَسَادٌ في فِطْرَتِهَا، وَانْحِرَافٌ في أَخْلَاقِهَا، بَلْ قَالَ بِكُلِّ بَسَاطَةٍ: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ﴾. أَيْنَ الرُّجُولَةُ وَهُوَ يَرَى الخَنَا في أَهْلِهِ؟

لَو كَانَ عَزِيزُ مِصْرَ فِيهِ النَّخْوَةُ وَالرُّجُولَةُ وَالغَيْرَةُ لَأَبْعَدَ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ القَصْرِ إِنْ كَانَ عَاجِزَاً عَنْ تَأْدِيبِ زَوْجَتَهُ، لِأَنَّ إِبْقَاءَهُ مَعَهَا أَتَاحَ المَجَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْ تُرَاوِدَهُ مَرَّةً أُخْرَى، بَلْ حَتَّى صَرَّحَتْ لِلنِّسَاءِ بِكُلِّ وَقَاحَةٍ: ﴿فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذِهِ هِيَ نَتِيجَةُ الحَيَاةِ المَدَنِيَّةِ المُتْرَفَةِ اللَّاهِيَةِ المُتَفَلِّتَةِ المُتَحَلِّلَةِ مِنْ ضَوَابِطِ الأَخْلَاقِ وَآدَابِ الشَّرْعِ الذي يُوجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَحْمِيَ عِرْضَهُ وَأَنْ يَغَارَ عَلَى أَهْلِهِ وَحَرِيمِهِ، وَأَنْ يَحْتَاطَ مِنْ أَجْلِ الحِفَاظِ عَلَى عِرْضِهِ وَأَخْلَاقِهِ، وَأَنْ يُبْعِدَ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ عَنْ جَمِيعِ الشُّبُهَاتِ، وَالأُمُورِ التي تُوصِلُ العَبْدَ لِارْتِكَابِ الفَاحِشَةِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كُونُوا عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ العَبْدَ المُسْتَقِيمَ المُلْتَزِمَ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَنْ يَتَخَلَّى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ، وَأَنَّ الشَّدَائِدَ التي تَقَعُ عَلَيْهِ مِنْ وَرَائِهَا حِكْمَةٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ تعالى.

فَهَذَا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ صُلْبَاً في دِينِهِ، وَفي تَرْبِيَتِهِ، وَفي مُرَاقَبَتِهِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَا تَخَلَّى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ في تِلْكَ المِحْنَةِ، لِأَنَّهُ بِحَقٍّ مَنْ كَانَ مَعَ اللهِ تعالى كَانَ اللهُ مَعَهُ، وَمَنْ حَفِظَ حُدُودَ اللهِ تعالى حَفِظَهُ اللهُ تعالى، وَصَدَقَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلُ: «احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ»  رواه الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

هَذَا دَرْسٌ عَمَلِيٌّ لِكُلِّ شَبَابِ هَذِهِ الأُمَّةِ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 4/ ذو الحجة /1440هـ، الموافق: 5/ آب / 2019م