6ـ النظر في حكمة الشرائع الإلهية (2)

الإيمان بعوالم الآخرة ومواقفها

6ـ النظر في حكمة الشرائع الإلهية (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانُ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا):

وَقَدْ يُعَانِدُ بَعْضُ الجُهَّالِ، وَيَتَعَامَى عَنْ تِلْكَ الأَدِلَّةِ كُلِّهَا وَيَقُولُ: هَلْ هُنَاكَ مَنْ قَدْ ذَهَبَ وَكَشَفَ لَنَا النِّقَابَ عَنْ حَقِيقَةِ الأَمْرِ، وَرَجَعَ فَأَخْبَرَنَا عَمَّا هُنَالِكَ؟ فَإِنَّنَا لَا نُصَدِّقُ إِلَّا بِالعَيَانِ، وَلَا نَقْبَلُ الدَّلِيلَ وَلَا البُرْهَانَ.

فَيُقَالُ لِذَلِكَ الجَاهِلِ الذي عَمِيَ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الأَدِلَّةِ: نَعَمْ، هُنَاكَ مَنْ ذَهَبَ وَاطَّلَعَ عَلَى تِلْكَ العَوَالِمِ التي سَيَنْقَلِبُ النَّاسُ إِلَيْهَا، وَعَادَ فَأَخْبَرَ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ تَفْصِيلَاً.

وَهَذَا المُخْبِرُ الذي رَأَى فَأَخْبَرَ هُوَ أَصَحُّ العَالَمِينَ نَظَرَاً، وَأَصْدَقُ خَلْقِ اللهِ تعالى خَبَرَاً، أَلَا وَهُوَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ الصَّادِقُ الأَمِينُ، بِشَهَادَةِ أَحِبَّائِهِ وَأَعْدَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَإِذَا كَانَ الإِنْسَانُ يُصَدِّقُ الرَّجُلَ الثِّقَةَ المُخْبِرَ الصَّادِقَ، الذي يُخْبِرُهُ عَنْ بَلَدِ كَذَا وَكَذَا وَمَا فِيهَا مِنْ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَكَيْفَ لَا يُصَدِّقُ أَصْدَقَ العَالَمِينَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، الذي أَسْرَى بِهِ اللهُ تعالى لَيْلَاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأَقْصَى، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إلى السَّمَاوَاتِ، ثُمَّ إلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، وَشَاهَدَ هُنَاكَ عَالَمَ الجَنَّةِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ.

وَاطَّلَعَ عَلَى عَالَمِ النَّارِ، وَرَأَى مَا رَأَى مِنْ أَلْوَانِ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ، وَأَنْوَاعَ المُعَذَّبِينَ.

وَأَطْلَعَهُ اللهُ عَلَى مَا هُنَالِكَ مِنَ العَوَالِمِ؛ ثُمَّ عَادَ فَأَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ تَثْبِيتَاً وَتَطْمِينَاً للمُؤْمِنِينَ بِمَا غَابَ عَنْهُمْ مِنْ تِلْكَ العَوَالِمِ، وَحُجَّةً عَلَى المُنْكِرِينَ المُعَانِدِينَ الذينَ لَا يُصَدِّقُونَ إِلَّا بِالعَيَانِ.

وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ حِكَمِ المِعْرَاجِ العَائِدَةِ إلى الأُمَّةِ بِاليَقِينِ وَالتَّمْكِينِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، لِيَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ في عَقِيدَتِهِمْ بِلَا شَكٍّ، وَكَأَنَّهُمْ عَايَنُوا ذَلِكَ كُلَّهُ.

وَفِي هَذَا يَقُولُ سُبْحَانَهُ: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ إلى قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ المَأْوَى﴾.

فَفِي هَذِهِ الآيَاتُ يُقْسِمُ اللهُ سُبْحَانَهُ بِالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، وَهَذَا يَشْمَلُ جَمِيعَ النُّجُومِ السَّيَارَةِ، التي تَهْوِي مِنَ المَشَارِقِ إلى المَغَارِبِ، يُقْسِمُ بِذَلِكَ عَلَى حَقِّيَّةِ هَدْيِ هَذَا الرَّسُولِ الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَرَشَادِهِ وَصِدْقِ مَنْطِقِهِ وَصَوَابِهِ، وَيَنْفِي عَنْهُ كُلَّ النَّفْيِ أَنْ يَكُونَ ضَلَّ أَو غَوَى، أَو تَكَلَّمَ عَنْ هَوَىً؛ وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ بِإِقْرَارِ قَوْمِهِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صَاحِبُهُمْ، نَشَأَ بَيْنَهُمْ وَعَامَلُوهُ، فَهُمْ أَعْرَفُ النَّاسِ بِصِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَصِفَاتِ كَمَالِهِ، لَمْ يَعْثُرُوا لَهُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَلَا غِوَايَةٍ مُنْذُ صِغَرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَفِي هَذَا تَمْهِيدٌ وَإِقَامَةُ حُجَّةٍ، عَلَى أَنَّهُ صَادِقٌ مُصَدَّقٌ فِيمَا رَآهُ وَسَمْعِهِ لَيْلَةَ مِعْرَاجِهِ إلى العَوَالِمِ العُلْوِيَّةِ مِنَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَسِدْرَةِ المُنْتَهَى، وَمُسْتَوَىً سَمِعَ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلَامِ، وَمَا هُنَالِكَ مِمَّا رَأَى وَشَاهَدَ مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ.

وَمَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنَ العَوَالِمِ الغَيْبِيَّةِ، وَنَعِيمِ أَهْلِ البَرْزَخِ وَعَذَابِهِمْ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَى عَذَابِ العُصَاةِ وَالزُّنَاةِ وَالرُّبَاةِ (أَرَادَ رَحِمَهُ اللهُ المُرَابِيْنَ). وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ القَسَمِ وَالمُقْسَمِ عَلَيْهِ في تِلْكَ الآيَاتِ، جَاءَ ذِكْرُ المِعْرَاجِ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَصَلَ إلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، ثُمَّ إلى عَالَمِ الجَنَّةِ، وَعَايَنَ مَا فِيهَا إلى مَا وَرَاءِ ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في أَحَادِيثِ المِعْرَاجِ.

فَقَضَايَا الآخِرَةِ ثَابِتَةٌ بِالقُرْآنِ، وَبِالبُرْهَانِ، وَبِالعَيَانِ مِنْ أَصْدَقِ إِنْسَانٍ، في جَمِيعِ الأَكْوَانِ، فَلَا حَاجَةَ بَعْدَ ذَلِكَ إلى حُجَّةٍ وَبَيَانٍ، وَلَا رَيْبَ في قَطْعِيَّةِ صِدْقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَمَانَتِهِ، الذي صَدَّقَهُ اللهُ تعالى، وَصَدَّقَتْهُ مَلَائِكَةُ اللهِ تعالى، وَصَدَّقَهُ عِبَادُ اللهِ، وَصَدَّقَتْهُ الأَشْجَارُ وَالأَحْجَارُ وَالأَمْدَارُ، وَصَدَّقَتْهُ ـ أَيْ: شَهِدَتْ بِصِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ ـ أَعْدَاؤُهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ الصَّادِقَ الأَمِينَ، وَلَمْ يَعْثُرُوا لَهُ عَلَى كِذْبَةٍ قَطُّ مُنْذُ صِغَرِهِ، حَتَّى قَالَ لَهُ أَبُو لَهَبٍ الذي هُوَ أَشَدُّ أَعْدَائِهِ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقَاً، وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ لَيْسَ مَوْضِعُهَا هُنَا.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 7/ ذو الحجة /1440هـ، الموافق: 8/آب / 2019م