669ـ خطبة الجمعة: خطورة فساد ذات البين

669ـ خطبة الجمعة: خطورة فساد ذات البين

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فَيَا عِبَادَ اللهِ: يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. وَيَقُولُ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾. وَيَقُولُ تعالى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾. وَيَقُولُ تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرَاً عَظِيمَاً﴾. وَيَقُولُ تعالى: ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورَاً رَحِيمَاً﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: قُومُوا بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ مِنَ الإِصْلَاحِ فِيمَا بَيْنَكُمْ يُنْجِزْ لَكُمْ مَا وَعَدَكُمْ مِنَ الفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

وَاعْلَمُوا أَنَّ الاخْتِلَافَ وَالخُصُومَةَ بَيْنَكُمْ سَبَبُهَا شَيَاطِينُ الإِنْسِ وَالجِنِّ وَالنُّفُوسُ الأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾.

خُطُورَةُ فَسَادِ ذَاتِ البَيْنِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ يُورِثُ الخِلَافَ وَالفِتْنَةَ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، وَبَيْنَ القَرِيبِ وَقَرِيبِهِ، وَبَيْنَ الصَّاحِبِ وَصَاحِبِهِ، وَالنَّظِيرِ وَنَظِيرِهِ، حَتَّى يَهْجُرَ الوَلَدُ أَبَاهُ، وَالزَّوْجُ زَوْجَتَهُ، وَالأَخُ أَخَاهُ، وَالجَارُ جَارَهُ، وَالشَّرِيكُ شَرِيكَهُ.

وَإِذَا دَبَّ الخِلَافُ وَفَسَدَتِ العَلَاقَاتُ اشْتَدَّتِ الخُصُومَاتُ، وَفَسَدَتِ النِّيَّاتُ، وَتَنَافَرَتِ القُلُوبُ، وَتَدَابَرَتِ الأَجْسَادُ، وَأَظْلَمَتِ الوُجُوهُ، وَوَقَعَ الكُلُّ في الكَبَائِرِ مِنْ غِيبَةٍ وَنَمِيمَةٍ وَسُخْرِيَةٍ وَهَمْزٍ وَلَـمْزٍ وَسُوءِ ظَنٍّ، وَتَفَوُّهٍ بِالقَوْلِ الفَاحِشِ وَالسَّبِّ وَالشَّتْمِ وَاللَّعْنِ وَالكُفْرِ ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى ـ وَوَقَعَ الكُلُّ بِالبُهْتِ وَالافْتِرَاءِ، وَقَدْ تَمْتَدُّ الأَيْدِي إلى الـضَّرْبِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ القَبَائِحِ وَالمُنْكَرَاتِ وَالمُخَالَفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ تَجْعَلُ المُتَخَاصِمِينَ وَالمُتَدَابِرِينَ يَجْتَرِؤُونَ عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ تعالى وَمَعْصِيَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى ـ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ وَعِيدُ اللهِ تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكَاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾.

المَنَاهِي عَنْ كُلِّ مَا يَزْرَعُ الشَّحْنَاءَ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ نَهَانَا اللهُ تعالى، وَنَهَانَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كُلِّ مَا يَزْرَعُ الشَّحْنَاءَ وَالبَغْضَاءَ بَيْنَنَا، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرَاً مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرَاً مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرَاً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضَاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتَاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾.

لَقَدْ نَهَانَا اللهُ تعالى عَنْ هَذِهِ الأُمُورِ، لِأَنَّهَا تُورِثُ وَتَزْرَعُ الشَّحْنَاءَ وَالبَغْضَاءَ، وَتُؤَدِّي إلى القَطِيعَةِ وَالتَّدَابُرِ وَالتَّحَاسُدِ، وَحِرْمَانِ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، لِذَلِكَ يُرْشِدُنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى تَرْكِ هَذِهِ الأُمُورِ بِقَوْلِهِ: «لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانَاً، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا أَيُّهَا المُتَهَاجِرُونَ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ قَلَّ المُصْلِحُونَ بَيْنَ النَّاسِ وَكَثُرَ المُفْسِدُونَ، لَقَدْ قَلَّ النُّصَّاحُ وَكَثُرَ المُدَّاحُ كَذِبَاً وَزُورَاً في المُجْتَمَعِ، لِذَلِكَ لَا يَسَعُ العُقَلَاءَ في هَذِهِ الآوِنَةِ إِلَا أَنْ يَسْمَعُوا كَلَامَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لِذَلِكَ أَقُولُ: يَا أَيُّهَا المُتَهَاجِرُونَ، اسْمَعُوا كَلَامَ حَبِيبِكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

روى الحاكم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحِلُّ الْهِجْرَةُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنِ الْتَقَيَا فَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَرَدَّ عَلَيْهِ الْآخَرُ السَّلَامَ اشْتَرَكَا فِي الْأَجْرِ، وَإِنْ أَبَى الْآخَرُ أَنْ يَرُدَّ السَّلَامَ بَرِئَ هَذَا مِنَ الْإِثْمِ وَبَاءَ بِهِ الْآخَرُ ـ وَأَحْسِبُهُ قَالَ ـ وَإِنْ مَاتَا وَهُمَا مُتَهَاجِرَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي الْجَنَّةِ».

وروى الشيخان عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ».

وروى الإمام أحمد عَنْ هِشَامَ بْنَ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ مُسْلِمَاً فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَإِنْ كَانَ تَصَارَمَا فَوْقَ ثَلَاثٍ فَإِنَّهُمَا نَاكِبَانِ عَنِ الْحَقِّ مَا دَامَا عَلَى صُرَامِهِمَا، وَأَوَّلُهُمَا فَيْئَاً فَسَبْقُهُ بِالْفَيْءِ كَفَّارَتُهُ، فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ سَلَامَهُ رَدَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ، وَرَدَّ عَلَى الْآخَرِ الشَّيْطَانُ، فَإِنْ مَاتَا عَلَى صُرَامِهِمَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي الْجَنَّةِ أَبَدَاً».

وروى أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ».

وروى الإمام أحمد وأبو داود والحاكم عَنْ أَبِي خِرَاشٍ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: كَفَانَا فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ، كَفَانَا هَجْرَاً وَقَطِيعَةً، كَفَانَا جُرْأَةً عَلَى مُخَالَفَةِ أَوَامِرِ اللهِ تعالى وَأَوَامِرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَفَانَا أَنْ نَسْمَحَ للشَّيْطَانِ أَنْ يَلْعَبَ بِنَا، وَاللهِ مَا رَأَيْنَا خَيْرَاً في فَسَادِ ذَاتِ البَيْنِ ، وَلَكِنَّ الشَّرَّ كُلَّ الشَّرِّ في الدُّنْيَا وَالآخَرَةِ بِسَبَبِ فَسَادِ ذَاتِ البَيْنِ ، فَهَلْ مِنْ مُسَابِقٍ لِأَخِيهِ في الصَّلَاحِ وَالإِصْلَاحِ لِيَنَالَ شَرَفَ الشَّهَادَةِ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ».

اللَّهُمَّ اجْمَعْنَا عَلَيْكَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 22/ ذو الحجة /1440هـ، الموافق: 23/ آب / 2019م