670ـ خطبة الجمعة: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ﴾

670ـ خطبة الجمعة: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ﴾

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فَيَا عِبَادَ اللهِ: الرَّحْمَةُ فَضِيلَةٌ مَحْمُودَةٌ، وَخُلُقٌ مِنَ الأَخْلَاقِ الفَاضِلَةِ، وَصِفَةٌ مِنَ الصِّفَاتِ الكَامِلَةِ التي وَصَفَ اللهُ تعالى بِهَا نَفْسَهُ، وَتَفَضَّلَ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ، وَامْتَنَّ بِهَا عَلَى خَلْقِهِ، قَالَ تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾.

وَكَمَا وَصَفَ الهُ تعالى نَفْسَهُ بِالرَّحْمَةِ، وَصَفَ نَبِيَّهُ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالرَّحْمَةِ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

وَإِضَافَةً إلى هَذَا فَقَدْ نَزَّلَ اللهُ تعالى كِتَابَهُ المُعْجِزَ، وَجَعَلَهُ رَحْمَةً للمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانَاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدَىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾.

صِلَةُ الأَرحَامِ مِنَ الرَّحْمَةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنَ الرَّحْمَةِ أَمَرَ اللهُ تعالى بِصِلَةِ الأَرْحَامِ، فَقَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالَاً كَثِيرَاً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبَاً﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئَاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانَاً وَبِذِي الْقُرْبَى﴾.

وَيَقُولُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» رواه الشيخان عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَلَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في بِدَايَةِ أَمْرِهِ وَبِدَايَةِ بِعْثَتِهِ يُحَرِّضُ النَّاسَ وَيَأْمُرُهُمْ بِصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ سَيِّدُنَا أَبُو سُفْيَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عِنْدَمَا سَأَلَهُ هِرَقْلُ: بِمَ يَأْمُرُكُمْ؟ ـ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: قُلْتُ: يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّلَةِ (يَعْنِي صِلَةَ الأَرْحَامِ) وَالعَفَافِ.

فَصِلَةُ الرَّحِمِ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الإِيمَانِ البَارِزَةِ، وَصَحَّ عَنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَذَاكِ لَكِ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا قَاطِعَ الرَّحِمِ، اسْمَعْ:

يَا عِبَادَ اللهِ: قَطِيعَةُ الرَّحِمِ اليَوْمَ قَائِمَةٌ عَلَى قَدَمٍ وَسَاقٍ، وَبِكُلِّ أَسَفٍ، وَخَاصَّةً في هَذِهِ الآوِنَةِ، بَعْدَ أَنْ تَقَطَّعَتْ أَوَاصِرُ المُسْلِمِينَ بِشَكْلٍ عَامٍّ، لَقَدْ أَصْبَحْنَا وَأَمْسَيْنَا نَسْمَعُ وَنَرَى التَّهَاجُرَ بَيْنَ أَفْرَادِ الأُسْرَةِ الوَاحِدَةِ، الأَخُ مَعَ أَخِيهِ، وَالأَخُ مَعَ أُخْتِهِ، وَالوَلَدُ مَعَ وَالِدِهِ، وَالبِنْتُ مَعَ أُمِّهَا، وَالكُلُّ يَعْلَمُ أَنَّ الهَجْرَ حَرَامٌ بِشَكْلٍ عَامٍّ، وَأَنَّهُ كَبِيرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الهَجْرُ بَيْنَ الأَرْحَامِ؟

يَا قَاطِعَ الرَّحِمِ، اسْمَعْ مَا يَقُولُهُ اللهُ تعالى في حَقِّ قَاطِعِ الرَّحِمِ: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾.

هَلْ عِنْدَ قَاِطَعِ الرَّحِمِ الاسْتِعْدَادُ أَنْ تَطْرُقَ هَذِهِ الآيَةُ مَسَامِعَهُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾؟

يَا قَاطِعَ الرَّحِمِ، لَا تَتَنَاسَى هَذِهِ الآيَةَ وَتَتَغَافَلْ عَنْهَا، وَلَا تُبَرِّرْ قَطِيعَةَ رَحِمِكَ، وَلَا تَكُنْ مِمَّنْ قَالَ اللهُ تعال فِيهِمْ: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرَاً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾.

يَا قَاطِعَ الرَّحِمِ، اسْمَعْ إلى مَا يَقُولُهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللهُ لِصَاحِبِهِ العُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ البَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

قَطِيعَةُ الرَّحِمِ سَبَبٌ للذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ وَالضَّعْفِ وَالتَّفَرُّقِ، مَجْلَبَةُ للهَمِّ وَالغَمِّ، فَقَاطِعُ الرَّحِمِ لَا يَثْبُتُ عَلَى مُؤَاخَاةٍ، وَلَا يُرْجَى مِنْهُ وَفَاءٌ، وَلَا صِدْقٌ في الإِخَاءِ، يَشْعُرُ بِقَطِيعَةِ اللهِ لَهُ، مُلَاحَقٌ بِنَظَرَاتِ الاحْتِقَارِ، مَهْمَا تَلْقَى مِنْ مَظَاهِرِ التَّبْجِيلِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْتَوْحِشُونَ مِنَ الجُلُوسِ مَعَ قَاطِعِ الرَّحِمِ، فَهَذَا سَيِّدُنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: أُحَرِّجُ عَلَى كُلِّ قَاطِعِ رَحِمٍ لَمَا قَامَ مِنْ عِنْدِنَا. رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد.

وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَالِسَاً في حَلْقَةٍ بَعْدَ الصُّبْحِ، فَقَالَ: أَنْشُدُ اللهَ قَاطَعَ رَحِمٍ لَمَا قَامَ عَنَّا، فَإِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَدْعُوَ رَبَّنَا، وَأَبْوَابُ السَّمَاءِ مُرْتَجَةٌ دُونَ قَاطَعِ رَحِمٍ. رواه الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَحِمِهِ قَطِيعَةٌ فَلْيُبَادِرْ بِالصُّلْحِ وَلْيَعْفُ وَلْيَصْفَحْ ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾. ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.

حُسْنُ الخُلُقِ وَحُسْنُ الصِّلَةِ مِنْ شَأْنِ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، لِأَنَّ الإِيمَانَ بِالدَّارِ الآخِرَةِ يُهَذِّبُ سُلُوكَ المُؤْمِنِ، وَيُقَوِّمُ سُلُوكَهُ وَطَرِيقَهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: قَاطِعُ الرَّحِمِ سَيُحَاسِبُهُ اللهُ تعالى، فَمَا هُوَ قَائِلٌ لِرَبِّهِ؟ قَاطِعُ الرَّحِمِ يَحْمِلُ وِزْرَهُ وَوِزْرَ أَبْنَائِهِ، لِأَنَّهُ يُورِثُ القَطِيعَةَ لِأَبْنَائِهِ، وَاللهُ تعالى يَقُولُ: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالَاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: الرَّحِمَ الرَّحِمَ، اتَّقُوا اللهَ تعالى في الرَّحِمِ، وَخُذُوا بِيَدِ أَبْنَائِكُمْ لِصِلَةِ أَرْحَامِهِمْ وَعَلِّمُوا أَبْنَاءَكُمْ هَذَا الحَدِيثَ الشَّرِيفَ سُلُوكَاً وَعَمَلَاً، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلَاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ.

فَقَالَ: «لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ».

الوَاصِلُ رَابِحٌ، وَالقَاطِعُ خَاسِرٌ، وَهَنِيئَاً للرَّابِحِ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 29/ ذو الحجة /1440هـ، الموافق: 23/ آب / 2019م