18ـ محبة سيدنا يوسف للدعوة

18ـ محبة سيدنا يوسف للدعوة

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ العِبَرِ وَالفَوَائِدِ التي نَسْتَفِيدُهَا مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، أَنَّهُ مِنَ المُحَالِ دَوَامُ الحَالِ، وَالمُؤْمِنُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِمَا كُلِّفَ بِهِ في المَقَامِ الذي أَقَامَهُ اللهُ تعالى فِيْهِ.

هَذَا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَتَحَوَّلُ مِنَ القَصْرِ وَضَجِيجِهِ وَدَسَائِسِهِ وَتَحَاسُدِهِ إلى السِّجْنِ وَصَمْتِهِ، لَقَدْ قَامَ بِمَا كُلِّفَ بِهِ عِنْدَمَا كَانَ في القَصْرِ، وَانْطَلَقَ مِنْ مُنْطَلَقِ ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾.

وَأَمَّا في السِّجْنِ الذي هُوَ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ، بَيْنَ القُصُورِ وَالقُبُورِ، وَسُكَّانُ السِّجْنِ كَسَمَكٍ في بِرْمِيلٍ، يَدُورُونَ حَوْلَ أَنْفُسِهِمْ، وَمُعْظَمُهُمْ مَرْضَى مِنْ مَنَاخٍ فَاسِدٍ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كُونُوا عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ لِهَذَا الكَوْنِ إِلَهَاً، يَنْصُرُ المَظْلُومِينَ، وَيَحْفَظُ أَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ وَأَحْبَابَهُ وَالدُّعَاةَ إلى اللهِ تعالى مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَيُدَبِّرُ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ يَشْعُرُ العِبَادُ أَو لَا يَشْعُرُونَ.

هَذَا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَدْخُلُ السِّجْنَ وَفي نَفْسِ اللَّحْظَةِ يَدْخُلُ مَعَهُ سَجِينَانِ، لِيَكُونَ لَهُمْ دَوْرٌ في قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلِيَكُونَا سَبَبَاً بَيْنَهُ وَبَيْنَ المَلِكِ، فَفِي ظَاهِرِ الأَمْرِ دَخَلَا السِّجْنَ لِاقْتِرَافِهِمْ ذَنْبَاً مِنَ الذُّنُوبِ، وَلَكِنْ في حَقِيقَةِ الأَمْرِ كَانَا لِإِخْرَاجِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ السِّجْنِ، قَالَ تعالى: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرَاً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزَاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

هَذَانِ الفَتَيَانِ مِنْ رِجَالَاتِ القَصْرِ، وَبَعْدَ بِضْعِ سِنِينَ سَيَخْرُجُ أَحَدُهُمَا لِيَكُونَ سَاقِيَاً للمَلِكِ، وَالآخَرُ لِيُصْلَبَ.

مَحَبَّةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ للدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَخَلَ السِّجْنَ مَعَ ظُهُورِ بَرَاءَتِهِ، وَهَذَا مِنَ الظُّلْمِ، وَهُنَا يَظْهَرُ مَوْقِفُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى، فَلَقَدْ كَانَ مُحِبَّاً للدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى، لِأَنَّ الدَّعْوَةَ إلى اللهِ تعالى هِيَ أَشْرَفُ الوَظَائِفِ، وَأَفْضَلُ الأَعْمَالِ، فَهِيَ الوَظِيفَةُ الأَسَاسِيَّةُ للأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهِيَ العَمَلُ الرَّئِيسِيُّ لِسَائِرِ الهُدَاةِ وَالمُصْلِحِينَ، وَقَدْ نَصَّ اللهُ تعالى عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلَاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحَاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾.

كَمَا أَشَارَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى أَنَّ الدَّاعِينَ إلى اللهِ تعالى، العَامِلِينَ بِعِلْمِهِمْ، المُعَلِّمِينَ لِغَيْرِهِمْ هُمْ أَعْلَى النَّاسِ دَرَجَةً، وَأَكْثَرُ النَّاسِ تَأَثُّرَاً وَتَأْثِيرَاً بِالدِّينِ الحَنِيفِ، روى الترمذي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ».

اغْتِنَامُ الفُرْصَةِ للدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَتَعَلَّمْ دَرْسَاً عَمَلِيَّاً في الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى مِنْ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، حَيْثُ اغْتَنَمَ الفُرْصَةَ المُلَائِمَةَ للدَّعْوَةِ، فَهَذَانِ السَّجِينَانِ رَأَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُؤْيَا، وَهِيَ رُؤْيَا غَرِيبَةٌ تَسْتَدْعِي الاهْتِمَامَ، لِذَلِكَ بَحَثَا عَنْ مُعَبِّرٍ لَهَا، وَلَمْ يَخْتَارَا غَيْرَ سَيِّدِنَا يُوسُفَ الصِّدِّيقِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَانَ الذي حَمَلَهُمَا عَلَى اخْتِيَارِهِ دُونَ غَيْرِهِ هُوَ مَا رَأَيَاهُ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ السُّلُوكِ، وَالإِحْسَانِ في القَوْلِ وَالعَمَلِ، وَمَا عَلَى وَجْهِهِ مِنْ آثَارِ الصَّلَاحِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُهَمَا: ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

عِنْدَمَا رَأَى سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَاجَتَهُمَا المَاسَّةَ لِتَعْبِيرِ هَذِهِ الرُّؤْيَا العَجِيبَةِ، وَرَأَى كَذَلِكَ مِنْ حُسْنِ ظَنِّهِمَا فِيهِ، اغْتَنَمَ هَذِهِ الفُرْصَةَ لِدَعْوَتِهِمْ إلى اللهِ تعالى، وَكَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَبْدَأَ قَبْلَ دَعْوَتِهِمَا إلى اللهِ، وَقَبْلَ تَفْسِيرِ الرُّؤْيَا لَهُمَا بِزِيَادَةِ تَعْرِيفِهِمَا بِنَفْسِهِ، وَتَشْوِيقِهِمَا إلى حَدِيثِهِ، وَبَيَانِ نِعْمَةِ اللهِ تعالى عَلَى أَهْلِ التَّوْحِيدِ، فَقَالَ: ﴿لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾. ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمَا أَنَّ الشِّرْكَ سَبَبٌ لِكُلِّ شَرٍّ، وَأَنَّ تَوْحِيدَ اللهِ تعالى سَبَبٌ لِكُلِّ خَيْرٍ، فَقَالَ: ﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾.

ثُمَّ بَعْدَ كُلِّ هَذِهِ التَّمْهِيدَاتِ العَظِيمَةِ جَرَّدَ الدَّعْوَةِ إلى التَّوْحِيدِ فَقَالَ: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَتَعَلَّمْ جَمِيعَاً مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّ المِحَنَ وَالابْتِلَاءَاتِ وَالمَصَائِبَ لَا تُشْغِلُ الدَّاعِيَ عَنْ دَعْوَتِهِ إلى اللهِ تعالى، فَهُوَ في أَحْلَكِ الظُّرُوفِ دَاعٍ إلى اللهِ تعالى.

وَلْنَتَعَلَّمْ كَذَلِكَ مِنْ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّ العَبْدَ المُحْسِنَ الصَّالِحَ هُوَ دَاعٍ إلى اللهِ تعالى بِحَالِهِ قَبْلَ قَوْلِهِ، لِأَنَّ أَفْعَالَهُ مُطَابِقَةٌ لِأَقْوَالِهِ ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

وَلْنَتَعَلَّمْ كَذَلِكَ مِنْ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ تَغْلِبُ مَرَارَةَ الحَيَاةِ، فَحَلَاوَةُ الإِيمَانِ أَنْسَتْهُ مَرَارَةَ السِّجْنِ، وَلَو اسْتَجَابَ لِامْرَأَةِ العَزِيزِ ـ وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ ـ لَصَارَ الـقَصْرُ قَبْرَاً ضَيِّقَاً عَلَيْهِ.

وَلْنَتَعَلَّمْ كَذَلِكَ مِنْ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الدَّعْوَةَ إلى اللهِ تعالى تَكُونَ في كُلِّ مَكَانٍ، فَكَمَا كَانَ دَاعِيَاً إلى اللهِ تعالى في القَصْرِ بِحَالِهِ، كَذَلِكَ كَانَ دَاعِيَاً إلى اللهِ في السِّجْنِ بِحَالِهِ وَقَالِهِ.

وَلْنَتَعَلَّمْ كَذَلِكَ مِنْ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ المَعْدِنَ الأَصْلِيَّ لَا تُغَيِّرُهُ الأَمَاكِنُ، لَقَدْ كَانَ مُحْسِنَاً في القَصْرِ، كَانَ مُحْسِنَاً في السِّجْنِ، وَسَيَكُونُ مُحْسِنَاً عَلَى كُرْسِيِّ المَلِكِ حَيْثُ سَيَعْفو وَيَصْفَحُ عَن إِخْوَتِهِ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا للإِحْسَانِ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 17/ محرم /1441هـ، الموافق: 16/ أيلول / 2019م