12ـ براءة سيدنا يوسف عليه السلام

﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ﴾

12ـ براءة سيدنا يوسف عليه السلام

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قِصَّةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تُعَلِّمُنَا دُرُوسَاً في الصَّبْرِ وَالحِلْمِ وَالأَنَاةِ، لَقَدِ اتُّهِمَ سَيِّدُنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِامْرأَةِ العَزِيزِ، وَقَالَتْ لِسَيِّدِهَا: ﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءَاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؟

وَهَذَا الاتِّهَامُ الكَاذِبُ، وَالافْتِرَاءُ البَاطِلُ مَرْدُودٌ عَلَى امْرأَةِ العَزِيزِ، لِأَنَّهُ ثَبَتَتْ بَرَاءَةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالأَدِلَّةِ القَطْعِيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ أُدْخِلَ السِّجْنَ سَنَوَاتٍ طَوِيلَةً، وَكَانَ فِيهَا صَابِرَاً حَلِيمَاً، مُتَأَنِّيَاً غَيْرَ مُتَعَجِّلٍ، حَتَّى عِنْدَمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِ عَزِيزُ مِصْرَ لِيُخْرِجَهُ مِنَ السِّجْنِ فَتَأَنَّى وَقَالَ لِرَسُولِ المَلِكِ: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾.

إِثْبَاتُ بَرَاءَةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى بَرَاءَةَ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الوُقُوعِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي، حَيْثُ بَيَّنَ شَهَادَةَ كُلِّ مَنْ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالقَضِيَّةِ بِبَرَاءَتِهِ، وَشَهَادَةَ اللهِ لَهُ بِذَلِكَ، وَاعْتِرَافَ إِبْلِيسَ بِهَا.

أَمَّا الذينَ لَهُمْ تَعَلُّقٌ بِتِلْكَ الوَاقِعَةِ فَهُمْ: سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَزَوْجَةُ العَزِيزِ، وَزَوْجُهَا، وَالنِّسْوَةُ، وَالشُّهُودُ.

أولاً: سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَزَمَ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ تِلْكَ المَعْصِيَةِ، قَالَ تعالى مُخْبِرَاً عَنْهُ: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾. وَقَوْلُهُ تعالى مُخْبِرَاً عَنْهُ كَذَلِكَ: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾. وَهَذَا دَلِيلٍ عَلَى بَرَاءَتِهِ.

ثانياً: اعْتِرَافُ امْرأَةِ العَزِيزِ أَنَّهَا هِيَ التي رَاوَدَتْهُ فَاسْتَعْصَمَ، فَقَالَ تعالى مُخْبِرَاً عَنْهَا: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَاً مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾. ثُمَّ قَوْلُهَا: ﴿الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾.

ثالثاً: اعْتِرَافُ عَزِيزِ مِصْرَ، زَوْجِ تِلْكَ المَرْأَةِ بِأَنَّهَا صَاحِبَةُ الكَيْدِ، قَالَ تعالى مُخْبِرَاً عَنْهُ: ﴿قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾.

رابعاً: اعْتِرَافُ الشُّهُودِ بِذَلِكَ، قَالَ تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ وَقَالَ تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾.

خامساً: أَمَّا شَهَادَةُ اللهِ تعالى وَهِيَ الكَافِيَةُ وَالوَافِيَةُ، فَهِيَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿كَذَلِكَ لِـنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾. فَقَدْ أَثْبَتَتْ بِذَلِكَ بَرَاءَةَ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

سادساً: وَأَمَّا إِقْرَارُ إِبْلِيسَ بِطَهَارَةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَنَزَاهَتِهِ فَوَاضِحَةٌ بِقَوْلِهِ تعالى مُخْبِرَاً عَنْ إِبْلِيسَ قَوْلَهُ: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾. وَسَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِشَهَادَةِ اللهِ تعالى أَنَّهُ مِنَ الْمُخْلَصِينَ؛ وَلَقَدْ أَقَرَّ إِبْلِيسُ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إِغْوَاءُ الْمُخْلَصِينَ.

وَبِهَذَا أَظَهَرَتْ دَلَالَةُ القُرْآنِ الكَرِيمِ مِنْ جِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ بَرَاءَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ ثَبَتَتْ بَرَاءَةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ للجَمِيعِ، وَلَكِنْ مَعَ كُلِّ هَذَا ﴿بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾. أَيْ: بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا بَرَاءَةَ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَوْا أَنَّ إِسْكَاتَ القَضِيَّةِ تَكُونُ بِسِجْنِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ حِفَاظَاً عَلَى سُمْعَةِ امْرَأَةِ العَزِيزِ التي أَلْقَتْ كَرَامَتَهَا تَحْتَ الأَقْدَامِ، وَقَدْ أَقْنَعَتْهُمْ بِكَيْدِهَا وَمَكْرِهَا أَنْ يُسْجَنَ حَتَّى تُنَفِّذَ وَعِيدَهَا وَتَهْدِيدِهَا بِقَوْلِهَا: ﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَاً مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَو اسْتَجَابَ سَيِّدُنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ وَحَاشَاهُ مِنْ هَذِهِ الاسْتِجَابَةِ ـ لَكَانَ في سِجْنِ الهَوَى، وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ سِجْنِ الظَّالِمِينَ، لَو اسْتَجَابَ لَهَا ـ وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ ـ لَصَارَ ـ حَاشَاهُ ـ مِنَ الصَّاغِرِينَ فِعْلَاً.

وَلَو اسْتَجَابَ لَهَا ـ وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ ـ لَصَارَ هُنَاكَ طَابُورٌ طَوِيلٌ مِنْ وَرَائِهَا يَنْتَظِرُ الدَّوْرَ، وَلَيْسَتِ امْرَأَةُ العَزِيزِ وَحْدَهَا، وَإِنَّمَا كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ: ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ﴾. يَعْنِي: البِدَايَةُ مَعَ امْرَأَةِ العَزِيزِ، ثُمَّ مَعَ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ، وَسَتَكُونُ صُورَةً فَظِيعَةً غَيْرَ مُحْتَمَلَةٍ لَو فَعَلَ ـ وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ ـ نَسْأَلُ اللهَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَعَ هَذِهِ المَنْزِلَةِ السَّامِيَةِ الرَّفِيعَةِ أُدْخِلَ السِّجْنَ سِجْنَ الظَّالِمِينَ، وَأَبَى أَنْ يَدْخُلَ سِجْنَ الهَوَى مَعَ بَرَاءَتِهِ، وَهَذَا دَرْسٌ عَمَلِيٌّ لِكُلِّ بَرِيءٍ، فَمَنْ ظُلِمَ وَكَانَ بَرِيئَاً فَعَلَيْهِ بِالصَّبْرِ وَالحِلْمِ وَالأَنَاةِ، وَسَوْفَ يُظْهِرُ اللهُ تعالى بَرَاءَتَهُ عَاجِلَاً أَمْ آجِلَاً، وَالسَّعِيدُ مَنْ فَازَ في الخَاتِمَةِ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى الحِفْظَ وَالسَّلَامَةَ وَالرِّعَايَةَ وَالحِلْمَ وَالأَنَاةَ، وَأَنْ يَحْفَظَنَا مِنْ شَرِّ أَنْفُسِنَا وَشَرِّ الأَشْرَارِ. آمين.

**    **    **

الاثنين: 27/ شوال /1440هـ، الموافق: 1/ تموز / 2019م