37ـ تَحَرَّ الجليس الصالح

أخلاق وآداب

37ـ تَحَرَّ الجليس الصالح

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَا مِنَّا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ صَاحِبٌ وَخَلِيلٌ، وَهَذَا أَمْرٌ فِطْرِيٌّ في الإِنْسَانِ، لِأَنَّ الإِنْسَانَ بِحَاجَةٍ إلى الآخَرِينَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَغْنِيَ الإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ عَنِ الآخَرِينَ، وَلَمَا كَانَ هَذَا هُوَ حَالَ كُلِّ إِنْسَانٍ، لِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ يُرِيدُ أُخُوَّةَ إِنْسَانٍ وَصَدَاقَتَهُ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهِ صِفَاتٍ مُعَيَّنَةً تَتَمَثَّلُ فِيمَا يَلِي:

أولاً: أَنْ يَكُونَ مُتَمَسِّكَاً بِدِينِهِ حَرِيصَاً عَلَيْهِ، لِأَنَّ تَارِكَ دِينِهِ هُوَ في الحَقِيقَةِ عَدُوٌّ لِنَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ عَدُوَّاً لِنَفْسِهِ فَهُوَ عَدُوٌّ لِغَيْرِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى؛ فَتَارِكُ الدِّينِ لَا يُرْجَى مِنْهُ خَيْرٌ وَلَا مَنْفَعَةٌ وَلَا مَوَدَّةٌ وَلَا صِلَةٌ.

ثانياً: أَنْ يَكُونَ ذَا عَقْلٍ جَيِّدٍ، يَهْدِي بِهِ إلى أَرْشَدِ الأُمُورِ، لِأَنَّ قَلِيلَ العَقْلِ لَا تَثْبُتُ مَعَهُ مَوَدَّةٌ، وَلَا تَدُومُ لِصَاحِبِهِ اسْتِقَامَةٌ، فَتَرَاهُ يَوْمَاً صَدِيقَاً، وَيَوْمَاً آخَرَ عَدُوَّاً لَدُودَاً.

ثالثاً: أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَأَنْ يَكُونَ مَحْمُودَ الأَخْلَاقِ وَالسِّيرَةِ، مَرْضِيَّ الأَفْعَالِ، مُؤْثِرَاً الخَيْرَ، وَآمِرَاً بِهِ، كَارِهَاً للشَّرِّ وَنَاهِيَاً عَنْهُ.

لِأَنَّ مُؤَاخَاةِ الشِّرِّيرِ تُكْسِبُ العَدَاءَ، وَتُفْسِدُ الأَخْلَاقَ، وَلَا خَيْرَ في مَوَدَّةٍ تَجْلِبُ عَدَاوَةً، وَتُورِثُ مَذَمَّةً وَمَلَامَةً.

رابعاً: أَنْ يَكُونَ لَدَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَيْلٌ إلى صَاحِبِهِ، وَرَغْبَةٌ في أُخُوَّتِهِ، لِأَنَّ هَذَا أَدْوَمُ للصَّدَاقَةِ وَالخُلَّةِ وَالمَوَدَّةِ وَالأُخُوَّةِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ، وَجَّهَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأُمَّةَ إلى اخْتِيَارِ الجَلِيسِ الصَّالِحِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ، وَالْجَلِيسِ السُّوْءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحَاً طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحَاً خَبِيثَةً» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وروى أبو يعلى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ جُلَسَائِنَا خَيْرٌ؟

قَالَ: «مَنْ ذَكَّرَكُمُ اللهَ رُؤْيَتُهُ، وَزَادَ فِي عَمَلِكُمْ مَنْطِقُهُ، وَذَكَّرَكُمْ فِي الْآخِرَةِ عَمَلُهُ».

صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الإِخَاءِ الحَقَّةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ رَبَّى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ الكِرَامَ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الإِخَاءِ، فَكَانُوا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ مُتَنَاصِحِينَ لَا مُتَمَادِحِينَ.

روى الإمام البخاري عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟

قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا.

فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامَاً، فَقَالَ: كُلْ؟

قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ.

قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ.

قَالَ: فَأَكَلَ.

فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فَنَامَ.

ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ.

فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا.

فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقَّاً، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقَّاً، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقَّاً، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.

فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ سَلْمَانُ».

مَا أَجْمَلَ الصَّاحِبَ وَالأَخَ الذي تَأْتِي نَصَائِحُهُ مُصَدَّقَةً مِنْ عِنْدِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

وَصُورَةٌ أُخْرَى مِنْ صُوَرِ الإِخَاءِ الصَّادِقِ، مَا رَوَاهُ الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ المَدِينَةَ فَآخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ.

فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ، فَرَبِحَ شَيْئَاً مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ.

فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَيَّامٍ وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَهْيَمْ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ؟».

قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ.

قَالَ: «فَمَا سُقْتَ فِيهَا؟».

فَقَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ بِالصَّاحِبِ الصَّالِحِ، وَالأَخِ النَّاصِحِ، الذي يَنْصَحُ وَلَا يَمْدَحُ إِلَّا حَقَّاً وَصِدْقَاً، لِأَنَّ الصَّاحِبَ في هَذِهِ الدُّنْيَا هُوَ الصَّاحِبُ في الآخِرَةِ، وَصَدَقَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلُ: «المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ» رواه الحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَرَضِيَ اللهُ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ القَائِلِ: ثَلَاثٌ يُصَفِّينَ لَكَ وُدَّ أَخِيكَ: أَنْ تُسَلِّمَ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيتَهُ، وَتُوَسِّعَ لَهُ فِي المَجْلِسِ، وَتَدْعُوَهُ بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِ إِلَيْهِ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى العَلِيَّ القَدِيرَ أَنْ يُهَيِّئَ لَنَا جُلَسَاءَ صَالِحِينَ يُذَكِّرُونَنَا بِاللهِ تعالى في أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 29/ شوال /1439هـ، الموافق: 3/ تموز / 2019م