3ـ البسملة (1)

تفسير القرآن العظيم

3ـ البسملة (1)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: فَقَدْ عَرَفْنَا في الدَّرْسِ السَّابِقِ بِأَنَّ الاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ تِلَاوَةِ القُرْآنِ الكَرِيمِ سُنَّةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الفُقَهَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِوُجُوبِهَا، وَقَدْ طَلَبَ الحَقُّ تَبَارَكَ وتعالى مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَسْتَعِيذُوا بِهِ مِنْ كُلِّ مَا فِيهِ شَرٌّ، وَشَرَعَهَا تَبَارَكَ وتعالى عِنْدَ القِيَامِ بِبَعْضِ الأَعْمَالِ، كَتِلَاوَةِ القُرْآنِ في الصَّلَاةِ وَخَارِجِهَا.

وَقَدِ اسْتَعَاذَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، عَلَّمَهَا هَذَا الدُّعَاءَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآَجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ».

فَقَدْ اسْتَعَاذَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِمَّا عُوفِيَ مِنْهُ وَعُصِمَ، وَذَلِكَ إِظْهَارَاً للعُبُودِيَّةِ، وَتَعْلِيمَاً للبَشَرِيَّةِ.

حُكْمُ الاسْتِعَاذَةِ في الصَّلَاةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الاسْتِعَاذَةُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ في الصَّلَاةِ سُنَّةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الفُقَهَاءِ، وَتَكُونُ قَبْلَ القِرَاءَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الفُقَهَاءِ، وَهِيَ تَابِعَةٌ للقِرَاءَةِ وَلَيْسَتْ تَابِعَةً للاسْتِفْتَاحِ، لِأَنَّهَا سُنَّةُ القِرَاءَةِ، فَيَأْتِي بِهَا كُلُّ قَارِئٍ، لِأَنَّهَا شُرِعَتْ صِيَانَةً عَنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ.

وَالاسْتِعَاذَةُ في الصَّلَاةِ تَكُونُ فَقَطْ في أَوَّلِ الرَّكْعَةِ الأُولَى، وَلَا تُعَادُ في رَكْعَةٍ ثَانِيَةٍ، وَهَذَا عِنْدَ الحَنَفِيَّةِ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَهُوَ سُنَّةٌ في أَوَّلِ كُلِّ رَكْعَةٍ، بِحَيْثُ يَقُولُ المُصَلِّي قَبْلَ القِرَاءَةِ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.

وَإِذَا فَاتَ التَّعَوُّذُ بِالشُّرُوعِ في القِرَاءَةِ، فَلَا يَعُودُ إِلَيْهِ المُصَلِّي.

البَسْمَلَةُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: بَعْدَ التَّعَوُّذِ عِنْدَ إِرَادَةِ تِلَاوَةِ القُرْآنِ، البَسْمَلَةُ، وَالبَسْمَلَةُ كَلِمَةٌ مَنْحُوتَةٌ مِنْ جُمْلَةِ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ كَمَا أَنَّ السَّبْحَلَةَ مَنْحُوتَةٌ مِنْ جُمْلَةِ: سُبْحَانَ اللهِ؛ وَالحَيْعَلَةَ مِنْ جُمْلَةِ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ؛ وَالحَوْقَلَةَ مِنْ جُمْلَةِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ؛ وَالحَمْدَلَةَ مِنْ جُمْلَةِ: الحَمْدُ للهِ، وَالتَّهْلِيلَ مِنْ جُمْلَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.

وَلَقَدْ أَدَّبَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِتَعْلِيمِهِ ذِكْرَ أَسْمَائِهِ أَمَامَ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ سُنَّةً يَسْتَنُّونَ بِهَا، وَسَبِيلَاً يَتَّبِعُونَهُ عَلَيْهَا، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ كَلَامٍ، أَوْ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُفْتَحُ بِذِكْرِ اللهِ، فَهُوَ أَبْتَرُ ـ أَوْ قَالَ: أَقْطَعُ» رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَقَوْلُ القَائِلِ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عِنْدَ افْتِتَاحِ التِّلَاوَةِ يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ مُرَادَهُ: أَقْرَأُ بِسْمِ اللهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الأَفْعَالِ.

البَسْمَلَةُ جُزْءٌ مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ:

اتَّفَقَ الفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ البَسْمَلَةَ جُزْءٌ مِنْ آيَةٍ في قَوْلِهِ تعالى، كَمَا قَالَ تعالى مُخْبِرَاً عَنْ كَلَامِ بَلْقِيسَ عِنْدمَا خَاطَبَتْ قَوْمَهَا بِقَوْلِهَا: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.

وَاخْتَلَفُوا في أَنَّهَا آيَةٌ مِنَ الفَاتِحَةِ، وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ، أَمْ لَا؟

المَشْهُورُ عِنْدَ الحَنَفِيَّةِ، وَالأَصَحُّ عِنْدَ الحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الفُقَهَاءِ: أَنَّ البَسْمَلَةَ لَيْسَتْ آيَةً مِنَ الفَاتِحَةِ، وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ، بَلْ هِيَ آيَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ القُرْآنِ كُلِّهِ، أُنْزِلَتْ للفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ، وَذُكِرَتْ في أَوَّلِ سُورَةِ الفَاتِحَةِ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِالحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ» ثَلَاثَاً غَيْرُ تَمَامٍ.

فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ؟

فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ؛ فإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي ـ وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي ـ فَإِذَا قَالَ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ.

فَالبَدَاءَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ البَسْمَلَةَ لَيْسَتْ أَوَّلَ آيَةٍ مِنَ الفَاتِحَةِ.

وَخَالَفَ في ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، وَقَالُوا: البَسْمَلَةُ آيَةٌ كَامِلَةٌ مِنَ الفَاتِحَةِ، وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ، لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾. فَعَدَّهَا آيَةً ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ آيَتَيْنِ ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ثَلَاثُ آيَاتٍ ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ أَرْبَعُ آيَاتٍ، وَقَالَ: هَكَذَا ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ وَجَمَعَ خَمْسَ أَصَابِعِهِ. رواه الحاكم.

وروى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قَرَأْتُمِ: الْحَمْدُ للهِ فَاقْرَؤُوا: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ إِنَّهَا أُمُّ الْقُرْآنِ، وَأُمُّ الْكِتَابِ، وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي، وَ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ إِحْدَاهَا.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 2/ ذو القعدة /1440هـ، الموافق: 4/تموز / 2019م