4ـ أحكام الأسآر

الفقه الإسلامي

4ـ أحكام الأسآر

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَتَكَلَّمُ اليَوْمَ عَنْ حُكْمِ الأَسْآرِ، وَالأَسْآرُ جَمْعٌ مُفْرَدُهَا سُؤْرُ، وَالسُّؤْرُ لُغَةً بَقِيَّةُ الشَّيْءِ، وَيُسْتَحَبُّ إِنْ شَرِبَ العَبْدُ أَنْ يُسْئِرَ، يَعْنِي يُبْقِي شَيْئَاً في مَقَرِّ الإِنَاءِ، وَجَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الترمذي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ عَلَى مَيْمُونَةَ فَجَاءَتْنَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا عَلَى يَمِينِهِ وَخَالِدٌ عَلَى شِمَالِهِ، فَقَالَ لِي: «الشَّرْبَةُ لَكَ، فَإِنْ شِئْتَ آثَرْتَ بِهَا خَالِدَاً».

فَقُلْتُ: مَا كُنْتُ أُوثِرُ عَلَى سُؤْرِكَ أَحَدَاً.

وَالسُّؤْرُ في الاصْطِلَاحِ: هُوَ فَضْلَةُ الشُّرْبِ، وَبَقِيَّةُ المَاءِ التي يُبْقِيهَا الشَّارِبُ في الإِنَاءِ، أَو في الحَوْضِ، وَيُسْتَعَارُ لِبَقِيَّةِ الطَّعَامِ.

حُكْمُ الأَسْآرِ:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ إلى أَنَّ الأَسْآرَ بَعْضُهَا طَاهِرٌ وَبَعْضُهَا نَجِسٌ.

وَقَالَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ: الأْسْآرُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:

النَّوْعُ الأَوَّلُ: سُوَرٌ مُتَّفَقٌ عَلَى طَهَارَتِهِ وَهُوَ سُؤْرُ الآدَمِيِّ بِجَمِيعِ أَحْوَالِهِ مُسْلِمَاً كَانَ أَوْ كَافِرَاً، صَغِيرَاً كَانَ أَوْ كَبِيرَاً، ذَكَرَاً أَوْ أُنْثَى، طَاهِرَاً أَوْ نَجِسَاً حَائِضَاً أَوْ نُفَسَاءَ أَوْ جُنُبَاً.

وَقَدْ أُتِيَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِلَبَنٍ، فَشَرِبَ بَعْضَهُ وَنَاوَل الْبَاقِيَ أَعْرَابِيَّاً كَانَ عَلَى يَمِينِهِ فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَهُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَشَرِبَ، وَقَال: الأَيْمَنَ فَالأَيْمَنَ. رواه الإمام مسلم.

وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِي فَيَشْرَبُ. رواه الإمام مسلم.

وَلِأَنَّ سُؤْرَ الآدَمِيِّ مُتَحَلِّبٌ مِنْ لَحْمِهِ، وَلَحْمُهُ طَاهِرٌ، فَكَانَ سُؤْرُهُ طَاهِرَاً، إِلَّا فِي حَال شُرْبِ الخَمْرِ فَيَكُونُ سُؤْرُهُ نَجِسَاً؛ لِنَجَاسَةِ فَمِهِ بِالْخَمْرِ.

وَكَذَلِكَ سُؤْرُ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ الأَنْعَامِ وَالطُّيُورِ، فَهُوَ سُؤْرٌ طَاهِرٌ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ بِسُؤْرِ بَعِيرٍ أَوْ شَاةٍ، وَلِأَنَّ سُؤْرَهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ لَحْمِهِ وَلَحْمَهُ طَاهِرٌ.

أَمَّا سُؤْرُ الْجَلَّالَةِ مِنَ الأَنْعَامِ وَالطُّيُورِ وَالدَّجَاجَةِ المُخَلاَّةِ وَهِيَ الَّتِي تَأْكُل النَّجَاسَاتِ حَتَّى أَنْتَنَ لَحْمُهَا فَيُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ لِاحْتِمَال نَجَاسَةِ فَمِهَا وَمِنْقَارِهَا.

وَإِذَا حُبِسَتْ حَتَّى يَذْهَبَ نَتْنُ لَحْمِهَا فَلَا كَرَاهَةَ فِي سُؤْرِهَا.

وَأَمَّا سُؤْرُ الْفَرَسِ فَطَاهِرٌ، لِأَنَّ لَحْمَهُ طَاهِرٌ.

النَّوْعُ الثَّانِي: السُّؤْرُ الطَّاهِرُ المَكْرُوهُ وَهُوَ سُؤْرُ سِبَاعِ الطَّيْرِ كَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَالحِدَأَةِ وَنَحْوِهَا فَسُؤْرُهَا طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهَا تَشْرَبُ بِمِنْقَارِهَا وَهُوَ عَظْمٌ جَافٌّ فَلَمْ يَخْتَلِطْ لُعَابُهَا بِسُؤْرِهَا؛ وَلِأَنَّ صِيَانَةَ الأَوَانِي عَنْهَا مُتَعَذِّرَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَنْقَضُّ مِنَ الْجَوِّ فَتَشْرَبُ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ سُؤْرُهَا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهَا تَتَنَاوَل الْجِيَفَ وَالْمَيْتَاتِ فَأَصْبَحَ مِنْقَارُهَا فِي مَعْنَى مِنْقَارِ الدَّجَاجَةِ المُخَلاَّةِ.

وَكَذَلِكَ سُؤْرُ الْفَأْرَةِ وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْحَشَرَاتِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ؛ لِأَنَّهُ يُتَعَذَّرُ صَوْنُ الأَوَانِي مِنْهَا.

وَكَذَلِكَ سُؤْرُ الْهِرَّةِ، فَهُوَ طَاهِرٌ وَلَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ، لِعِلَّةِ الطَّوَافِ المَنْصُوصَةِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوِ الطَّوَّافَاتِ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

حَيْثُ إِنَّهَا تَدْخُل المَضَائِقَ وَتَعْلُو الْغُرَفَ فَيُتَعَذَّرُ صَوْنُ الأَوَانِي مِنْهَا.

وَلَمَّا سَقَطَ حُكْمُ النَّجَاسَةِ مِنْ سُؤْرِهَا لِضَرُورَةِ الطَّوَافِ بَقِيَتِ الْكَرَاهَةُ؛ لِعَدَمِ تَحَامِيهَا النَّجَاسَةَ وَلِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهَا فِي الْجُمْلَةِ.

أَمَّا لَوْ أَكَلَتِ الْفَأْرَةَ ثُمَّ شَرِبَتِ الْمَاءَ عَلَى الْفَوْرِ تَنَجَّسَ الْمَاءُ، وَإِنْ مَكَثَتْ سَاعَةً وَلَحِسَتْ فَمَهَا ثُمَّ شَرِبَتْ فَلَا يَتَنَجَّسُ بَل يُكْرَهُ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: السُّؤْرُ النَّجِسُ المُتَّفَقُ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَهُوَ سُؤْرُ الْكَلْبِ سَوَاءٌ فِيهِ كَلْبُ الصَّيْدِ أَو المَاشِيَةِ أَو غَيْرِهِمَا، وَالْخِنْزِيرِ وَسَائِرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ.

أَمَّا الْخِنْزِيرُ فَلِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾. وَلُعَابُهُ يُتَوَلَّدُ مِنْ لَحْمِهِ النَّجِسِ.

وَأَمَّا الْكَلْبُ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِغَسْل الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَلِسَانُهُ يُلَاقِي المَاءَ؛ وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ الاحْتِرَازُ عَنْ سُؤْرِهِمَا وَصِيَانَةُ الأَوَانِي عَنْهُمَا.

النَّوْعُ الرَّابِعُ: الْمَشْكُوكُ فِي طَهَارَةِ سُؤْرِهِ وَهُوَ الْحِمَارُ الأَهْلِيُّ وَالْبَغْل فَسُؤْرُهُمَا مَشْكُوكٌ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ لِتَعَارُضِ الأَدِلَّةِ، فَالأَصْل فِي سُؤْرِهِمَا النَّجَاسَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو سُؤْرُهُمَا عَنْ لُعَابِهِمَا، وَلُعَابُهُمَا مُتَحَلِّبٌ مِنْ لَحْمِهِمَا وَلَحْمُهُمَا نَجَسٌ، وَلِأَنَّ عَرَقَهُ طَاهِرٌ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ مُعْرَوْرِيَاً (أَيْ: لَيْسَ عَلَيْهِ سَرْجٌ) وَالْحَرُّ حَرُّ الْحِجَازِ، وَيُصِيبُ الْعَرَقُ ثَوْبَهُ، وَكَانَ يُصَلِّي فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ. فَإِذَا كَانَ الْعَرَقُ طَاهِرَاً فَالسُّؤْرُ أَوْلَى.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ سُؤْرَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ مِنَ الأَنْعَامِ، وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحَمِيرِ وَالسِّبَاعِ وَالْهِرَّةِ وَالْفِئْرَانِ وَالطُّيُورِ وَالْحَيَّاتِ وَسَامٍّ أَبْرَصَ، وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ المَأْكُولَةِ وَغَيْرِ المَأْكُولَةِ ـ سُؤْرُ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ طَاهِرٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ ـ إِلَّا الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَمَا تُوَلِّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا.

فَإِذَا وَلَغَ أَحَدٌ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ فِي طَعَامٍ جَازَ أَكْلُهُ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَإِذَا شَرِبَ مِنْ مَاءٍ جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ بِلَا كَرَاهَةٍ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ لِأَنَّ فِي تَنْجِيسِ سُؤْرِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ حَرَجَاً، وَيَعْسُرُ الاحْتِرَازُ عَنْ بَعْضِهَا كَالْهِرَّةِ وَنَحْوِهَا مِنْ سَوَاكِنِ الْبُيُوتِ.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 5/ ذو القعدة /1440هـ، الموافق: 8/تموز / 2019م