4ـ تعريف التصوف

حقائق عن التصوف

4ـ تعريف التصوف

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ سَيِّدِي العَارِفُ بِاللهِ تعالى، المُرْشِدُ الكَبِيرُ، سَيِّدِي وَمَوْلَايَ الشَّيْخُ عَبْدُ القَادِر عِيسَى رَحِمَهُ اللهُ تعالى، في كِتَابِهِ: حَقائِقُ عَنِ التَّصَوُّفِ:

تَعْرِيفُ التَّصَوُّفِ:

قَالَ القَاضِي شَيْخُ الإِسْلَامِ زَكَرِيَّا الأَنْصَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (التَّصَوُّفُ عِلْمٌ تُعْرَفُ بِهِ أَحْوَالُ تَزْكِيَةِ النُّفُوسِ، وَتَصْفِيَةُ الأَخْلَاقِ وَتَعْمِيرُ الظَّاهِرِ وَالبَاطِنِ لِنَيْلِ السَّعَادَةِ الأَبَدِيَّةِ).

وَيَقُولُ الشَّيْخُ أَحْمَد زَرُّوق رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (التَّصَوُّفُ عِلْمٌ قَصَدَ لِإِصْلَاحِ القُلُوبِ، وَإِفْرَادِهَا لله تَعَالَى عَمَّا سِوَاهُ. وَالفِقْهُ لِإِصْلَاحِ العَمَلِ، وَحِفْظِ النِّظَامِ، وَظُهُورِ الحِكْمَةِ بِالأَحْكَامِ. وَالأُصُولُ "عِلْمُ التَّوْحِيدِ" لِتَحْقِيقِ الـمُقَدِّمَاتِ بِالبَرَاهِينِ، وَتَحْلِيَةِ الإِيمَانِ بِالإِيقَانِ، كَالطِّبِّ لِحِفْظِ الأَبْدَانِ، وَكَالنَّحْوِ لِإِصْلَاحِ اللِّسَانِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ).

قَالَ سَيِّدُ الطَّائِفَتَيْنِ الإِمَامُ الجُنَيْدُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (التَّصَوُّفُ اسْتِعْمَالُ كُلِّ خُلُقٍ سَنِيٍّ، وَتَرْكُ كُلِّ خُلُقٍ دَنِيٍّ).

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: (التَصَوُّفُ كُلُّهُ أَخْلَاقٌ، فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ باِلأَخْلَاقِ زَادَ عَلَيْكَ بِالتَّصَوُّفِ).

وَقَالَ أَبُو الحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (التَصَوُّفُ تَدْرِيبُ النَّفْسِ عَلَى العُبُودِيَّةِ، وَرَدُّهَا لِأَحْكَامِ الرُّبُوبِيَّةِ).

وَقَالَ ابْنُ عَجِيبَةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (التَصَوُّفُ: هُوَ عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ كَيْفِيَّةُ السُّلُوكِ إِلَى حَضْرَةِ مَلِكِ الـمُلُوكِ، وَتَصْفِيَةُ البَوَاطِنِ مِنَ الرَّذَائِلِ، وَتَحْلِيَتِهَا بِأَنْوَاعِ الفَضَائِلِ. وَأَوَّلُهُ عِلْمٌ، وَوَسَطُهُ عَمَلٌ، وَآخِرُهُ مَوْهِبَةٌ).

وَقَالَ صَاحِبُ كَشْفِ الظُّنُونِ: هُوَ عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ كَيْفِيَّةُ تَرَقِّي أَهْلِ الكَمَالِ مِنَ النَّوْعِ الإِنْسَانِيِّ في مَدَارِجِ سَعَادَاتِهِمْ..  إِلَى أَنْ قَالَ:

عِلْمُ التَّصَوُّفِ عِلْمٌ لَيْــــسَ يَعْرِفُه   ***   إِلَّا أَخُو فِطْـنَــةٍ بِالحَــــقِّ مَــعْرُوفُ

وَلَيْسَ يَعْرِفُهُ مَنْ لَيْــــسَ يَشْـهَدُهُ   ***   وَكَيْفَ يَشْهَدُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مَكْفُوفُ

وَقَالَ الشَّيْخُ زَرُّوق في قَوَاعِدِ التَّصَوُّفِ: (وَقَدْ حُدَّ التَّصَوُّفُ وَرُسِمَ وَفُسِّرَ بِوُجُوهٍ تَبْلُغُ نَحْوَ الأَلْفَيْنِ، مَرْجِعُ كُلِّهَا لِصِدْقِ التَّوَجُّهِ إِلَى الله تَعَالَى، وَإِنَّمَا هِيَ وُجُوهٌ فِيهِ).

فَعِمَادُ التَّصَوُّفِ تَصْفِيَةُ القَلْبِ مِنْ أَوْضَارِ الـمَادَّةِ، وَقِوَامُهُ صِلَةُ الإِنْسَانِ بِالخَالِقِ العَظِيمِ، فَالصُّوفِيُّ مَنْ صَفَا قَلْبُهُ للهِ، وَصَفَتْ للهِ مُعَامَلَتُهُ، فَصَفَتْ لَهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى كَرَامَتُهُ.

اشْتِقَاقُ التَّصَوُّفِ:

كَثُرَتِ الأَقْوَالُ في اشْتِقَاقِ التَّصَوُّفِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مِنَ الصُّوفَةِ، لِأَنَّ الصُّوفِيَّ مَعَ اللهِ تَعَالَى كَالصُّوفَةِ الـمَطْرُوحَةِ، لِاسْتِسْلَامِهِ للهِ تَعَالَى.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مِنَ الصِّفَةِ، إِذْ جُمْلَتُهُ: اتِّصَافٌ بِالـمَحَاسِنِ، وَتَرْكُ الأَوْصَافِ الـمَذْمُومَةِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مِنَ الصَّفَاءِ، حَتَّى قَالَ أَبُو الفَتْحِ البستي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

تَنَازَعَ النَّاسُ في الصُّوفِيِّ وَاخْتَلَفُوا   ***   وَظَنَّهُ البَعْضُ مُشْتَقَّاً مِنَ الصُّوفِ

وَلَسْتُ أَمْنَحُ هَذَا الاسْمَ غَيْرَ فَتَىً   ***   صَفَا فُصُوفِيَ حَتَّى سُمِّيَ الصُّوفِي

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مِنَ الصُفَّةِ، لِأَنَّ صَاحِبَهُ تَابِعٌ لِأَهْلِهَا فِيمَا أَثْبَتَ اللهُ لَهُمْ مِنَ الوَصْفِ؛ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾.

وَأَهْلُ الصُّفَّةِ هُمُ الرَّعِيلُ الأَوَّلُ مِنْ رِجَالِ التَّصَوُّفِ، فَقَدْ كَانَتْ حَيَاتُهُمُ التَّعَبُّدِيَّةُ الخَالِصَةُ الـمَثَلَ الأَعَلَى الذي اسْتَهْدَفَهُ رِجَالُ التَّصَوُّفِ في العُصُورِ الإِسْلَامِيَّةِ الـمُتَتَابِعَةِ.

وَقِيلَ: مِنَ الصَّفْوَةِ، كَمَا قَالَ الإِمَامُ القُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.

وَقِيلَ: مِنَ الصَّفِّ، فَكَأَنَّهُمْ في الصَّفِّ الأَوَّلِ بِقُلُوبِهِمْ مِنْ حَيْثُ حُضُورُهُمْ مَعَ اللهِ تَعَالَى، وَتَسَابُقُهُمْ في سَائِرِ الطَّاعَاتِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ التَّصَوُّفَ نِسْبَةٌ إِلَى لُبْسِ الصُّوفِ الخَشِنِ، لِأَنَّ الصُّوفِيَّةَ كَانُوا يُؤْثِرُونَ لُبْسَهُ للتَّقَشُّفِ وَالاخْشِيشَانِ.

وَمَهْمَا يَكُنْ مِنْ أَمْرٍ، فَإِنَّ التَّصَوُّفَ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجُ في تَعْرِيفِهِ إِلَى قِيَاسِ لَفْظٍ، وَاحْتِيَاجِ اشْتِقَاقٍ.

وَإِنْكَارُ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ بِأَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ في عَهْدِ الصَّحَابَةِ

وَالتَّابِعِينَ مَرْدُودٌ، إِذْ كَثِيرٌ مِنَ الاصْطِلَاحَاتِ أُحْدِثَتْ بَعْدَ زَمَانِ الصَّحَابَةِ، وَاسْتُعْمِلَتْ وَلَمْ تُنْكَرْ، كَالنَّحْوِ وَالفِقْهِ وَالـمَنْطِقِ.

وَعَلَى كُلٍّ فَإِنَّنَا لَا نَهْتَمُّ بِالتَّعَابِيرِ وَالأَلْفَاظِ، بِقَدْرِ اهْتِمَامِنَا بِالحَقَائِقِ وَالأُسُسِ، وَنَحْنُ إِذْ نَدْعُو إِلَى التَّصَوُّفِ إِنَّمَا نَقْصِدُ بِهِ تَزْكِيَةَ النُّفُوسِ وَصَفَاءَ القُلُوبِ، وَإِصْلَاحَ الأَخْلَاقِ، وَالوُصُولَ إِلَى مَرْتَبَةِ الإِحْسَانِ، نَحْنُ نُسَمِّي ذَلِكَ تَصَوُّفَاً، وَإِنْ شِئْتَ فَسَمِّهِ الجَانِبَ الرُّوحِيَّ في الإِسْلَامِ، أَو الجَانِبَ الإِحْسَانِيَّ، أَو الجَانِبَ الأَخْلَاقِيَّ، أَو سَمِّهِ مَا شِئْتَ مِمَّا يَتَّفِقُ مَعَ حَقِيقَتِهِ وَجَوْهَرِهِ، إِلَّا أَنَّ عُلَمَاءَ الأُمَّةِ قَدْ تَوَارَثُوا اسْمَ التَّصَوُّفِ وَحَقِيقَتَهُ عَنْ أَسْلَافِهِمْ مِنَ الـمُرْشِدِينَ مُنْذُ صَدْرِ الإِسْلَامِ حَتَّى يَوْمِنَا هَذَا، فَصَارَ عُرْفَاً فِيهِمْ.

رَحِمَ اللهُ تعالى شَيْخَنَا رَحْمَةً وَاسِعَةً، وَجَزَى اللهُ تعالى خَيْرَ الجَزَاءِ مَنْ قَالَ في حَقِّهِ:

وَعَـلَى أَبِي أَيُّـوبَ حَلَّ فَـقِيدُنَا    ***   ضَـيْـفَـاً فَـكَـانَ لَـهُ المَقَامُ الأَرْفَعُ

بِـجِوَارِ مَنْ نَزَلَ الحَبِيبُ بِدَارِهِ    ***   وَاخْتَارَهُ بِـالـفَـضْـلِ رَبٌّ مُـبْـدِعُ

وَلَهُ مِنَ الـشَّهْبَـاءِ أَصْـلٌ ثَابِتٌ   ***   وَعَلَى ذُرَا اسْتَنْبُولَ مَـثْـوَىً يَسْطَعُ

ذِكْرَاهُ إِنْ ذُكِرَتْ ذُكَاءُ فَمَشْرِقٌ    ***   وَسَنَاهُ إِنْ طَلَعَ الهِلَالُ فَـمَـطْـلِـعُ

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 16/ ذو القعدة /1440هـ، الموافق: 19/ تموز / 2019م