5ـ النظر في حكمة الشرائع الإلهية

الإيمان بعوالم الآخرة ومواقفها

5ـ النظر في حكمة الشرائع الإلهية

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانُ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا):

ثالثاً: النَّظَرُ في حِكْمَةِ الشَّرَائِعِ الإِلَهِيَّةِ يُؤَدِّي إلى إِثْبَاتِ اليَوْمِ الآخِرِ:

قَالَ تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثَاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾.

فَاللهُ تعالى الذي خَلَقَ العَالَمَ هُوَ حَكِيمٌ، وَمِنْ مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ سُبْحَانَهُ إِنْزَالُ الشَّرَائِعِ يَتَعَهَّدُ عِبَادَهُ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ، وَيَدُلُّهُمْ عَلَى مَا فِيهِ خَيْرُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ في الدُّنْيَا، وَيُحَذِّرُهُمْ مِمَّا فِيهِ فَسَادُهُمْ وَشَقَاؤُهُمْ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمِنْ مُقْتَضَى حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ الإِلَهِيِّ أَنْ يُعِيدَ الثَّقَلَيْنِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَيُرْجِعَهُمُ اللهُ لِأَجْلِ أَنْ يُحَاسِبَهُمْ، وَيَجْزِيَهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ التي عَمِلُوهَا، فَمِنْهُمُ الطَّائِعُ، وَمِنْهُمُ العَاصِي، وَمِنْهُمُ المُؤْتَمِرُ بِأَوَامِرِ اللهِ تعالى، وَمِنْهُمُ المُتَكَبِّرُ عَلَى شَرِيعَةِ اللهِ.

قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ﴾ ـ أَيْ: رُجُوعَهُمْ ـ ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾.

فَمَا خَلَقَ سُبْحَانَهُ البَشَرَ عَبَثَاً لَا لِحِكْمَةٍ، وَلَا لِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ، وَلَا لِحِسَابٍ وَسُؤَالٍ؛ بَلْ ذَلِكَ ظَنُّ الذينَ كَفَرُوا، وَجَهِلُوا حِكْمَةَ رَبِّهِمُ الذي خَلَقَهُمْ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّمَا خَلَقَهُمْ عَنْ حِكْمَةٍ وَلِحِكْمَةٍ، وَسَوْفَ يَجْمَعُهُمْ في الآخِرَةِ عَنْ حِكْمَةٍ وَلِحِكْمَةٍ.

فَخَلْقُ البَشَرِ بِلَا تَشْرِيعٍ عَبَثٌ، وَتَشْرِيعٌ وَأَمْرٌ وَنَهْيٌ بِلَا عَوْدَةٍ وَمَرْجِعٍ إلى المَلِكِ الحَكَمِ العَدْلِ بَاطِلٌ، فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ أَنْ يَخْلُقَ وَلَا يَشْرَعَ مَا فِيهِ سَعَادَةُ البَشَرِ وَمَصَالِحُهُمْ، وَتعالى اللهُ أَنْ يَشْرَعَ وَلَا يُرْجِعَهُمْ إِلَيْهِ للحِسَابِ وَالجَزَاءِ؛ لِمَا في ذَلِكَ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ المُحْسِنِ وَالمُسِيءِ، وَالصَّالِحِ وَالطَّالِحِ، وَالظَّالِمِ وَالعَادِلِ، فَتَعَالَى اللهُ تعالى أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَ أُولَئِكَ.

قَالَ تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾. أَيْ: كَلَّا وَلَا.

قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدَىً﴾. أَيْ: لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى.

فَالآيَاتُ القُرْآنِيَّةُ تُرْشِدُنَا إلى أَنَّ قَضِيَّةَ الآخِرَةِ هِيَ حَقٌّ وَحَقِيقَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، يُؤْمِنُ بِهَا أَهْلُ العُقُولِ الصَّحِيحَةِ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى حَقِّيَّتِهَا بِمُخْتَلَفِ الدَّلَائِلِ الكَوْنِيَّةِ، الآفَاقِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ، وَالدَّلَائِلِ التَّشْرِيعِيَّةِ.

قَالَ العَلَّامَةُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في: (تَفْسِيرِهِ): مِنَ الأَدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ عَلَى المَعَادِ، أَنَّهُ قَدْ دَلَّتِ الأَدِلَّةُ عَلَى أَنَّ العَالَمَ حَادِثٌ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ قَادِرٍ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمَاً، لِأَنَّ الفِعْلَ المُحْكَمَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنَ العَالِمِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَنِيَّاً عَنْهَا ـ أَيْ: عَنِ العَوَالِمِ ـ وَإِلَّا كَانَ خَلْقُهَا في الأَزَلِ وَهُوَ مُحَالٌ ـ أَيْ: بَلِ العَالَمُ حَادِثٌ وَلَيْسَ بِقَدِيمٍ.

فَثَبَتَ أَنَّ لِهَذَا العَالَمِ إِلَهَاً قَادِرَاً عَالِمَاً غَنِيَّاً، ثُمَّ لَمَّا تَأَمَّلْنَا فَقُلْنَا: هَلْ يَجُوزُ في حَقِّ هَذَا الحَكِيمِ الغَنِيِّ عَنِ الكُلِّ أَنْ يُهْمِلَ عَبِيدَهُ وَيَتْرُكَهُمْ سُدَىً ـ أَيْ: بِلَا بَيَانٍ وَتَشْرِيعٍ ـ وَيُجَوِّزَ لَهُمْ أَنْ يَكْذِبُوا عَلَيْهِ، وَيُبِيحَ لَهُمْ أَنْ يَشْتِمُوهُ وَيَجْحَدُوا رُبُوبِيَّتَهُ، وَيَأْكُلُوا نِعْمَتَهُ، وَيَعْبُدُوا الجِبْتَ وَالطَّاغُوتَ، وَيَجْعَلُوا لَهُ أَنْدَادَاً، وَيُنْكِرُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ؟!

فَهَا هُنَا حَكَمَتْ بَدِيهِيَّةُ العَقْلِ بِأَنَّ هَذِهِ المَعَانِي لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالسَّفِيهِ الجَاهِلِ، البَعِيدِ عَنِ الحِكْمَةِ، القَرِيبِ مِنَ العَبَثِ، فَحَكَمْنَا لِأَجْلِ هَذِهِ المُقَدِّمَةِ: أَنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ أَمْرَاً وَنَهْيَاً.

ثُمَّ تَأَمَّلْنَا فَقُلْنَا: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَمْرٌ أَو نَهْيٌ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ؟

فَحَكَمَ صَرِيحُ العَقْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْرِنِ الأَمْرَ بِالوَعْدِ وَالثَّوَابِ، وَلَمْ يَقْرِنِ النَّهْيَ بِالوَعِيدِ بِالعِقَابِ، لَمْ يَتَأَكَّدِ الأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَلَمْ يَحْصُلِ المَقْصُودُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وَعْدٍ وَوَعِيدٍ.

ثُمَّ تَأَمَّلْنَا فَقُلْنَا: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَعْدٍ وَوَعِيدٍ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَفِي بِوَعْدِهِ وَلَا بِوَعِيدِهِ لِأَهْلِ العِقَابِ؟ أَيْ: الذينَ لَا يَلِيقُ بِمُقْتَضَى الحِكْمَةِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ كَالمُشْرِكِينَ مَثَلَاً.

فَعَلِمْنَا أَنْ لَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِ الثَّوَابِ وَالعِقَابِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالحَشْرِ وَالبَعْثِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

قَالَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: فَهَذِهِ مُقَدِّمَاتٌ يَتَعَلَّقُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، كَالسِّلْسِلَةِ مَتَى صَحَّ بَعْضُهَا صَحَّ كُلُّهَا، وَمَتَى فَسَدَ بَعْضُهَا فَسَدَ كُلُّهَا، فَدَلَّتْ مُشَاهَدَةُ أَبْصَارِنَا لِهَذِهِ التَّغَيُّرَاتِ ـ الكَوْنِيَّةِ ـ عَلَى حُدُوثِ العَالَمِ، وَدَلَّ حُدُوثُ العَالَمِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الحَكِيمِ الغَنِيِّ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُودِ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُودِ الثَّوَابِ وَالعِقَابِ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُودِ الحَشْرِ ـ أَيْ: لِيَتَحَقَّقَ الجَزَاءُ عَلَى فِعْلِ الأَمْرِ وَمُخَالَفَةِ النَّهْيِ.

فَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ الحَشْرُ أَدَّى ذَلِكَ إلى بُطْلَانِ جَمِيعِ المُقَدِّمَاتِ المَذْكُورَةِ، وَلَزِمَ إِنْكَارُ العُلُومِ البَدِيهِيَّةِ، وَإِنْكَارُ العُلُومِ النَّظَرِيَّةِ القَطْعِيَّةِ. اهـ. كَلَامُ الرَّازِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 21/ ذو القعدة /1440هـ، الموافق: 24/تموز / 2019م