13ـ كلمات حول الروح الإنساني (3)

13ـ كلمات حول الروح الإنساني (3)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانُ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا):

ثانياً: إِنَّ الرُّوحَ الإِنْسَانِيَّةَ هِيَ: شَرِيفَةٌ كَرِيمَةٌ، قُدْسِيَّةٌ عَالِيَةٌ، أَعْلَنَ اللهُ تعالى شَرَافَتَهَا وَكَرَامَتَهَا بِإِضَافَتِهَا إِلَيْهِ حَيْثُ قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾.

فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ شَرَفِ الإِنْسَانِ: جِسْمَاً وَرُوحَاً:

أَمَّا شَرَفُ جِسْمِهِ فَقَدْ سَوَّاهُ هُوَ سُبْحَانَهُ، وَأَكْمَلَهُ وَعَدَّلَهُ وَأَحْسَنَهُ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ﴾، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾.

فَجِسْمُ الإِنْسَانِ لَيْسَ كَبَقِيَّةِ الأَجْسَامِ البَهِيمِيَّةِ الحَيَوَانِيَّةِ، بَلْ هُوَ مُشَرَّفٌ بِتَسْوِيَةِ اللهِ تعالى لَهُ، وَتَعْدِيلِهِ وَإِحْسَانِ تَقْوِيمِهِ.

وَأَمَّا شَرَفُ رُوحِهِ فَقَدْ أَضَافَهَا اللهُ تعالى إِلَيْهِ حَيْثُ قَالَ: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ وَالنَّفْخُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ إِيصَالِ الرُّوحِ بِالجِسْمِ، وَإِفَاضَتِهَا عَلَى ذَرَّاتِهِ كُلِّهَا بِالحَيَاةِ بَعْدَ أَنْ صَارَ مُسَوَّىً، وَمُسْتَعِدَّاً للرُّوحِ وَ﴿مِنْ﴾ التي في قَوْلِهِ تعالى: ﴿مِنْ رُوحِي﴾ هِيَ للابْتِدَاءِ، أَيْ: مِنْ رُوحٍ بَدْءُ خَلْقِهَا وَإِيجَادِهَا مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ.

وفي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الرُّوحَ الإِنْسَانِيَّةَ لَيْسَتْ كَغَيْرِهَا مِنْ أَرْوَاحِ البَهَائِمِ وَالحَيَوَانَاتِ، بَلْ هِيَ في أَوْجِ الشَّرَفِ وَالكَرَامَةِ، وَالاسْتِعْدَادِ للفُيُوضَاتِ وَالمَعَارِفِ الإِلَهِيَّةِ، وَالقَضَايَا الإِيمَانِيَّةِ، وَفِيهَا الأَهْلِيَّةُ الكَامِلَةُ لِأَنْ تَكُونَ مَوْضِعَ الخِطَابَاتِ الإِلَهِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ: بِالأَوَامِرِ وَالمَنَاهِي، وَالآدَابِ وَالأَخْلَاقِ العَالِيَةِ، فَيُخَاطِبُهُ اللهُ تعالى بِقَوْلِهِ: ﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾.

وَبِقَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾.

وَبِقَوْلِهِ: ﴿يَا عِبَادِي﴾ ـ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَالرُّوحُ هِيَ مِنَ العَالَمِ المَلَكُوتِيِّ العُلْوِيِّ، هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرْفَعِ، وَقُرِنَتْ بِهَذَا الجِسْمِ الإِنْسَانِيِّ:

فَإِذَا أَجَاعَ الإِنْسَانُ بَدَنَهُ وَشَغَلَهُ بِالعِبَادَةِ، وَأَقَامَهُ في خِدْمَةِ مَوْلَاهُ تعالى فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ سُبْحَانَهُ، وَجَدَتْ رُوحُهُ خِفَّةً وَلَطَافَةً، وَشَعَرَتْ بِاللَّذَّةِ وَالرَّاحَةِ، فَتَاقَتْ إلى المُسْتَوَى الذي هَبَطَتْ مِنْهُ، وَاشْتَاقَتْ إلى عَالَمِهَا العُلْوِيِّ المُقَدَّسِ.

وَإِذَا أَثْقَلَ الإِنْسَانُ بَدَنَهُ بِالمَآكِلِ وَالمَشَارِبِ، وَأَخْلَدَ إلى الشَّهَوَاتِ وَكَثْرَةِ النَّوْمِ وَالرَّاحَةِ، وَانْهَمَكَ في اللَّذَائِذِ الجِسْمِيَّةِ، ثَقُلَتِ الرُّوحُ، وَهَبَطَتْ مِنْ عَالَمِهَا، وَصَارَتْ أَرْضِيَّةً سًفْلِيَّةً.

وَلِذَلِكَ تَرَى الرَّجُلَ الصَّالِحَ في العَمَلِ، الصَّادِقَ في عِبَادَتِهِ لِرَبِّهِ، المُخْلِصَ للهِ تعالى دِينَهُ، تَرَى بَدَنَهُ عِنْدَكَ في الأَرْضِ، وَلَكِنَّ رُوحَهُ وَقَلْبَهُ في العَالَمِ العُلْوِيِّ يَجُولُ، كَمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَارِثَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الذي عَزَفَتْ ـ زَهِدَتْ ـ نَفْسُهُ عَنِ الدُّنْيَا.

قَالَ لَهُ: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةَ بْنَ مَالِكٍ؟».

فَقَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنَاً حَقَّاً.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟».

فَقَالَ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَأَسْهَرْتُ لِيَلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزَاً للحِسَابِ، وَلَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَلَكَأَنِّي أَسْمَعُ عِوَاءَ أَهْلِ النَّارِ.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَبْدٌ نَوَّرَ اللهُ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ، عَرَفْتَ فَالْزَمْ».

(قَالَ العَلَّامَةُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ: وَحَدِيثُ حَارِثَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ المَشْهُورُ قَدْ رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ مُرْسَلَةٍ وَرُوِيَ مُتَّصِلَاً، وَالمُرْسَلُ أَصَحُّ. اهـ (جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ).

وَأَوْرَدَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ في كِتَابِ الإِيمَانِ، وَأَوْرَدَهُ الحَافِظُ في: (الإِصَابَةِ) وَذَكَرَهُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنَ المُحَدِّثِينَ).

وروى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ في كِتَابِ الإِيمَانِ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ مُحَمَّدٍ صَالِحٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ فَقَالَ: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ؟».

فَقَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنَاً حَقَّاً.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةٌ، فَمَا حَقِيقَةُ ذَلِكَ؟».

قَالَ: يَا رَسُولُ اللهِ، أَطْلَقْتُ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي، وَأَظْمَأْتُ هَوَاجِرِي ـ جَمْعُ هَاجِرَةٍ وَهِيَ الظَّهِيرَةُ ـ وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا ـ يَصِيحُونَ وَيَسْتَصْرِخُونَ ـ.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَرَفْتَ ـ أَوْ «لُقِّنْتَ» ـ فَالْزَمْ».

وفي رِوَايَةٍ: «عَبْدٌ نَوَّرَ اللهُ قَلْبَهُ».

وَعَلَى العَكْسِ، فَإِنَّ الكُفَّارَ وَالفُجَّارَ لَمَّا أَخْلَدُوا إلى الأَرْضِ، وَعَمُوا وَصَمُّوا في شَهَوَاتِهِمُ البَهِيمِيَّةِ، وَأَهْوَائِهِمُ السُّفْلِيَّةِ، فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ هَبَطَتْ مِنْ عَلْيَائِهَا، وَصَارَتْ أَرْضِيَّةً دَنِيَّةً.

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا﴾ أَيْ: لَمْ يَتَحَقَّقْ بِمَوَاجِبِهَا، وَلَمْ يَتَلَبَّسْ بِمَعَانِيهَا، بَلِ انْخَلَعَ مِنْهَا ﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ﴾ فَاصْطَادَهُ وَافْتَرَسَهُ ﴿فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنَ الرَّاشِدِينَ ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا﴾ بِتِلْكَ الآيَاتِ الكَرِيمَةِ العَالِيَةِ، فَإِنَّهَا بِهَا يَعْلُو عَالِيَ الهِمَّةِ ﴿وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ﴾ أَيْ: مَالَ إلى مَلَاذِّهَا وَزَخَارِفِهَا كُلَّ المَيْلِ، حُبَّاً فِيهَا، وَهُيَامَاً بِهَا ﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى دَنَاءَةِ هِمَّتِهِ، وَخِسَّةِ يُغْيَتِهِ، حَيْثُ إِنَّهُ اخْتَارَ الأَسْفَلَ الأَدْنَى عَلَى الأَشْرَفِ الأَعْلَى، فَهُوَ في ذَلِكَ ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾.

أَيْ: شَأْنُ الكَلْبِ أَنْ يَلْهَثَ إِنْ تَرَكْتَهُ أَو حَمَلْتَ عَلَيْهِ وَطَرَدْتَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَفَرَ وَأَخْلَدَ إلى الأَرْضِ فَهُوَ يَلْهَثُ عَلَى الدُّنْيَا مُتَكَالِبَاً عَلَيْهَا، فَهُوَ إِنْ تَرَكْتَهُ يَلْهَثُ عَلَى الدُّنْيَا، وَإِنْ حَمَلْتَ عَلَيْهِ بِالوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ، وَالحُجَّةِ وَالبَيِّنَاتِ يَلْهَثُ عَلَى الدُّنْيَا، وَلَا يَعْلُو عَنْهَا بِهِمَّتِهِ وَعَزِيمَتِهِ ﴿ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 10/ ربيع الأول /1441هـ، الموافق: 7/ تشرين الأول / 2019م