15ـ بشارة الملائكة للمؤمن عند الموت

15ـ بشارة الملائكة للمؤمن عند الموت

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانُ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا):

بِشَارَةُ المَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ للمُؤْمِنِ عِنْدَ المَوْتِ

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلَاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾. جَعَلَنَا اللهُ مِنْهُمْ ـ اللَّهُمَّ آمين.

فَمَلَائِكَةُ اللهِ تعالى تَتَنَزَّلُ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَهْلِ الاسْتِقَامَةِ عِنْدَ مَوْتِهِمْ، وفي قُبُورِهِمْ، وَبَعْثِهِمْ وَحَشْرِهِمْ، وفي جَمِيعِ تَقَلُّبَاتِهِمْ في بَرَازِخِ الآخِرَةِ، تَطْمِينَاً لِأَنْفُسِهِمْ، وَتَأْمِينَاً لَهُمْ مِنْ مَخَاوِفِ الآخِرَةِ وَفَزَعِهَا؛ يَقُولُونَ لَهُمْ: لَا تَخَافُوا مِمَّا سَتَقْدَمُونَ عَلَيْهِ مِنَ العَوَالِمِ الأُخْرَوِيَّةِ، وَلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا خَلَقَكُمْ في الدُّنْيَا مِنَ الوَلَدِ وَالأَهْلِ وَالمَالِ، فَإِنَّا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا.

فَبَعْدَمَا يُؤَمِّنُونَهُمْ يُبَشِّرُونَهُمْ بِالجَنَّةِ التي كَانُوا يُوعَدُونَ بِهَا في الدُّنْيَا، عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ مُلَاطَفَةً وَمُؤَانَسَةً: ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أَيْ: نَحْنُ أَحِبَّاؤُكُمْ وَأَنْصَارُكُمْ، وَنُصَحَاؤُكُمْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ كُنَّا نَحْفَظُكُمْ بِأَمْرِ اللهِ تعالى، وَنُثَبِّتُكُمْ بِإِذْنِهِ تعالى؛ كَمَا قَالَ تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وَنَحْنُ الذينَ كُنَّا نَنْصُرُكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمُ الشَّيْطَانِيِّ، وَنَلُمُّ بِكُمْ فَنُلْهِمَكُمُ الخَيْرَ حِينَ كَانَ الشَّيْطَانُ يُزَيِّنُ لَكُمُ الشَّرَّ، كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَابُكُمُ الذينَ كُنَّا نَحْضُرُ مَعَكُمْ في مَجَالِسِ صَلَوَاتِكُمْ وَعِبَادَاتِكُمْ وَأَذْكَارِكُمْ.

﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ أَيْ: وَنَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الآخِرَةِ، نُؤْنِسُكُمْ مِنَ الوَحْشَةِ في القُبُورِ، وَعِنْدَ النَّفْخَةِ في الصُّورِ، وَنُؤَمِّنُكُمْ يَوْمَ البَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَنُجَاوِزُكُمُ الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ، وَنُوصِلُكُمْ إلى جَنَّاتِ النَّعِيمِ: آمِنِينَ مُسْتَبْشِرِينَ.

وَمَا أَشَدَّ حَاجَةَ الإِنْسَانِ إلى الصَّدِيقِ الصَّادِقِ وَقْتَ الضِّيقِ الخَانِقِ:

وَمِنْ وَلَائِهِمْ في الآخِرَةِ: شَهَادَتُهُمْ للمُؤْمِنِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ بِطَاعَتِهِمْ، وَعِبَادَاتِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشَاهِدُونَهَا في الدُّنْيَا، وَيَشْهَدُونَهَا مَعَهُمْ.

إِنْذَارُ المَلَائِكَةِ عَلَيْهِ السَّلَامُ للكَافِرِ عِنْدَ مَوْتِهِ بِالعَذَابِ:

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ وَالمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾.

فَإذَا نَزَلَ المَوْتُ بِالكُفَّارِ وَصَارُوا في غَمَرَاتِهِ وَشَدَائِدِهِ، بَسَطَتِ المَلَائِكَةُ إِلَيْهِمْ أَيْدِيَهُمْ بِالضَّرْبِ وَالزَّجْرِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا المَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾.

فَهُمْ يَضْرِبُونَهُمْ وَيَقُولُونَ لَهُمْ تَعْنِيفَاً وَإِغْلَاظَاً: ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾ أَيْ: أَرْوَاحَكُمْ مِنْ أَجْسَادِكُمْ ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ أَيْ: اليَوْمَ تُهَانُونَ غَايَةَ الإِهَانَةِ وَالإِذْلَالِ بِسَبَبِ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ في الدُّنْيَا تَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ، وَتَسْتَكْبِرُونَ عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِهِ، وَالاْنِقِيَادِ لِرُسُلِهِ صَلَوَاتُ اللهِ تعالى عَلَيْهِمْ ـ وَهَكَذَا غَمَرَتْهُمُ الشَّدَائِدُ غَمْرَةً فَوْقَ غَمْرَةٍ، كَمَا يَغْمِرُ المَاءُ الغَرِيقَ، وَازْدَحَمَتْ عَلَيْهِمُ الكُرُبَاتُ، وَتَوَالَتْ عَلَيْهِمُ الضَّرَبَاتُ بِمَقَامِعِ الحَدِيدِ ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى.

حَسَرَاتُ الكُفَّارِ وَالعُصَاةِ حِينَ يَنْزِلُ بِهِمُ المَوْتُ وَتَمَنِّيهِمُ العَوْدَةَ إلى الدُّنْيَا

قَالَ اللهُ تعالى في الكُفَّارِ: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحَاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.

فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُخْبِرُ عَنِ الكَافِرِ حِينَ يُحْتَضَرُ، أَنَّهُ يَسْأَلُ الرَّجْعَةَ حِينَ يَرَى العَذَابَ يَوْمَ القِيَامَةِ.

قَالَ تعالى: ﴿وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ﴾.

كَمَا أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ الرَّجْعَةَ وَيَسْأَلُونَهَا حِينَ يَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ، وَيَسْتَقِرُّونَ فِيهَا.

قَالَ تعالى: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحَاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ فَيُقَالُ في الجَوَابِ: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾ أَيْ: لَقَدْ أَعْطَيْنَاكُمْ عُمُرَاً فِيهِ مُتَّسَعٌ لَكُمْ أَنْ تَتَذَكَّرُوا وَتَتَّعِظُوا بِمَا جَاءَتْ بِهِ آيَاتُ اللهِ تعالى، وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلِ اللهِ تعالى، وَبِمَا أَنْذَرَتْكُمْ بِهِ أَنْبِيَاءُ اللهِ تعالى صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ ﴿فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾.

قَالَ قَتَادَةُ ـ التَّابِعِيُّ المُفَسِّرُ ـ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحَاً﴾ قَالَ: وَاللهِ مَا تَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إلى أَهْلٍ وَلَا إلى مَالٍ، وَلَا بِأَنْ يَجْمَعَ الدُّنْيَا وَيَقْضِيَ الشَّهَوَاتِ، لَكِنْ تَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ فَيَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللهِ ـ فَرَحِمَ اللهُ امْرَأً عَمِلَ بِمَا يَتَمَنَّاهُ الكَافِرُ إِذَا رَأَى العَذَابَ في النَّارِ.

وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنِ العُصَاةِ المُفْرِطِينَ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ طُولَ المُدَّةِ في الدُّنْيَا، وَتَأْخِيرِ المَوْتِ، لِيَسْتَدْرِكُوا مَا فَاتَهُمْ في حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا:

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.

فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَأْمُرُ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ أَنْ تَشْغَلُهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَسِرَ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ.

ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَحُثُّ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ عَلَى الإِنْفَاقِ في طَاعَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ المَوْتُ بِأَحَدِهِمْ؛ فَيَسْأَلَ تَأْخِيرَ الأَجَلِ، وَقَدْ مَضَى الزَّمَانُ، وَفَاتَ الأَوَانُ.

روى الترمذي، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُبَلِّغُهُ حَجَّ بَيْتِ رَبِّهِ، أَوْ تَجِبُ عَلَيْهِ مِنْهُ زَكَاةٌ، فَلَمْ يَفْعَلْ ـ أَيْ: لَمْ يُؤَدِّ وَاجِبَهُ ـ سَأَلَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ المَوْتِ.

فَقَالَ رَجُلٌ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ اتَّقِ اللهَ، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ الرَّجْعَةَ عِنْدَ المَوْتِ الكُفَّارُ.

فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: سَأَتْلُو عَلَيْكَ بِذَلِكَ قُرْآنَاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ﴾ إلى قَوْلِهِ تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ الآيَات.

وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: وَيْلٌ لِأَهْلِ الْمَعَاصِي مِنْ الْقُبُورِ، تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِي قُبُورِهِمْ حَيَّاتٌ سُودٌ أَو دُهْمٌ: حَيَّةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَحَيَّةٌ عِنْدَ رِجْلَيْهِ؛ يَقْرُصَانِهِ حَتَّى يَلْتَقِيَا فِي وَسَطِهِ، فَذَلِكَ الْعَذَابُ فِي الْبَرْزَخِ، قَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 24/ ربيع الأول /1441هـ، الموافق: 21/ تشرين الأول / 2019م