25ـ ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾

25ـ ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَتَعَلَّمُ دَرْسَاً عَمَلِيَّاً مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ أَنَّ التَّقَلُّبَ بَيْنَ الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ حَالٌ يَعِيشُهُ أَهْلُ الدُّنْيَا، فَتَمُرُّ عَلَيْهِمْ أَيَّامُ شِدَّةٍ وَكَرْبٍ وَبَلَاءٍ وَضِيقٍ بِحَيْثُ يُصْبِحُ الأُفُقُ الفَسِيحُ أَضْيَقَ في أَعْيُنِهِمْ مِنْ سَمِّ الخِيَاطِ، تَعْلُو سَمَاءَهُ غُيُومُ الأَحْزَانِ وَالأَكْدَارِ، وَتَسْرِي مَعَ هَوَائِهِ رِيحُ الآلَامِ وَالكُرُوبِ وَالأَحْزَانِ.

وَلَهُمْ فِيهَا أَيَّامٌ يَتَقَلَّبُونَ فِيهَا في الرَّخَاءِ وَسَعَةِ العَيْشِ، وَلَكِنَّهَا هَذِهِ الأَيَّامُ مَمْزُوجَةٌ بِالمُنَغِّصَاتِ وَالغُصَصِ، لِأَنَّهَا نِعَمٌ لَا تَدُومُ، وَإِنْ دَامَتْ فَلَنْ يَدُومَ المُنْعَمُ عَلَيْهِ.

مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ نَتَعَلَّمُ أَنَّ الدُّنْيَا لَا تَدُومُ عَلَى حَالٍ، وَهَذِهِ هِيَ سَجِيَّةُ الدَّارِ، وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

حُـكْـمُ الْـمَـنِـيَّةِ فِي الْبَرِيَّةِ جَارِ   ***   مَـا هَـذِهِ الـدُّنْـيَـا بِدَارِ قَرَارِ

بَـيْـنَـمَا يُرَى الْإِنْسَانُ فِيهَا مُخْبِرَاً   ***   حَتَّى يُرَى خَبَرًا مِـنْ الْأَخْبَارِ

طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا   ***   صَفْوَاً مِنْ الْأَقْذَارِ وَالْأَكْـدَارِ

قِصَّةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ تُخَاطِبُ كُلَّ عَبْدٍ طَالَ بِهِ البَلَاءُ، وَتَرَبَّعَ اليَأْسُ في قَلْبِهِ، وَجَثَتِ الهُمُومُ عَلَى نَفْسِهِ، فَتَنَفَّسَ هَوَاءَ الأَحْزَانِ، وَاسْتَنْشَقَ رَوَائِحَ الأَكْدَارِ، بِأَنَّهُ مَهْمَا اشْتَدَّ البَلَاءُ، فَإِنَّ الفَرَجَ يَعْقِبُهُ، وَمَهْمَا قَوِيَ العُسْرُ فَإِنَّ اليُسْرَ يَغْلِبُهُ.

﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَتَأَمَّلْ قِصَّةَ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، كَيْفَ أُلْقِيَ في الجُبِّ، وَبِيعَ بَيْعَ العَبِيدِ، وَهُوَ الحُرُّ الأَبِيُّ، ثُمَّ ابْتُلِيَ بِامْرَأَةِ العَزِيزِ فَصَبَرَ وَنَجَحَ، ثُمَّ  رُمِيَ زُورَاً وَإِفْكَاً فَلَبِثَ في السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ، وَبَعْدَ كُلِّ هَذَا كَانَ الفَرَجُ، قَالَ تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾.

فَكَانَتْ لَهُ القِوَامَةُ عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ، بَعْدَ المُعَانَاةِ الرَّهِيبَةِ وَالطَّوِيلَةِ التي مَرَّ بِهَا، وَهُوَ صَابِرٌ وَرِعٌ تَقِيٌّ نَقِيٌّ، لَمْ يَمْتَدَّ طَرْفُهُ إلى حَرَامٍ، وَلَا يَدُهُ إلى إِثْمٍ، فَصَارَ أَمِينَاً عَلَى خَزَائِنِ مِصْرَ.

حَسَدُ إِخْوَتِهِ لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئَاً، بَلِ ارْتَدَّ كَيْدُهُمْ إلى نَحْرِهِمْ، وَقَدْ أَتَوْا إِلَيْهِ أَذِلَّاءَ صَاغِرِينَ، وَهُوَ في عِزٍّ وَمَقَامٍ أَمِينٍ، فَظَهَرَ بِشَكْلٍ جَلِيٍّ أَنَّ عَاقِبَةَ المَعْصِيَةِ ذُلٌّ وَخَسَارَةٌ، وَأَنَّ العَاقِبَةَ الطَّيِّبَةَ للتَّقْوَى.

﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: بَعْدَ المِحَنِ جَاءَتِ المِنَحُ، فَهَذِهِ بِدَايَةُ مَرْحَلَةٍ جَدِيدَةٍ في قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، طُوِيَتْ مَرْحَلَةٌ كَانَتْ فِيهَا المُعَانَاةُ وَالمِحَنُ وَالشَّدَائِدُ وَالكُرُوبُ، وَتَجَلَّى فِيهَا صَبْرُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، تَجَلَّى فِيهَا صَبْرُهُ وَإِصْرَارُهُ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَالابْتِعَادِ عَنِ المُخَالَفَاتِ، وَصَبْرُهُ عَلَى البَلَاءِ، تَجَلَّى فِيهَا عَقْلُهُ وَحِكْمَتُهُ وَحُسْنُ تَـصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِهِ، انْتَهَتْ هَذِهِ المَرْحَلَةُ القَاسِيَةُ، وَجَاءَتْ مَرْحَلَةٌ جَدِيدَةٌ، مَرْحَلَةُ التَّمْكِينِ في الأَرْضِ، تَتَمَثَّلُ في هَذِهِ المَرْحَلَةِ العَاقِبَةُ الحَمِيدَةُ للمُتَّقِينَ، وَتَتَمَثَّلُ فِيهَا عِنَايَةُ اللهِ تعالى وَحِمَايَتُهُ للصَّابِرِينَ، وَنُصْرَتُهُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ.

هَا هُوَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ يَخْرُجُ مِنْ جَوْفِ المِحْنَةِ وَظُلُمَاتِ السِّجْنِ مُعَزَّزَاً مُكَرَّمَاً، عَظِيمَ المَكَانَةِ في القُلُوبِ، وَيَسْتَخْلِصُهُ المَلِكُ لِنَفْسِهِ لِمَا رَأَى مِنْ أَمَانَتِهِ وَعِفَّتِهِ وَمَوْهِبَتِهِ وَإِخْلَاصِهِ.

لِذَلِكَ عَزَمَ المَلِكُ عَلَى الاسْتِفَادَةِ مِنْهُ وَالاسْتِعَانَةِ بِهِ، لِخِبْرَتِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَلَقَدْ كَانَ في أَمَسِّ الحَاجَةِ إِلَيْهِ، لَقَدْ عَرَفَ قِيمَةَ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ فَاخْتَارَهُ لِيَكُونَ لَهُ عَوْنَاً وَسَنَدَاً، وَقَالَ لَهُ: ﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾.

وَعِنْدَمَا قَالَ لَهُ المَلِكُ هَذَا، قَالَ لَهُ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾.

نَعَمْ لَقَدْ طَلَبَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ الإِمَارَةَ، لِأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَحَدٌ مِنَ حَاشِيَةِ المَلِكِ أَنْ يَكُونَ أَمِينَاً عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ؛ المُجْتَمَعُ قَائِمٌ عَلَى النَّهْبِ وَالسَّلْبِ وَالرِّشْوَةِ، وَفَرْضِ الأَتَاوَاتِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُؤَدِّي إلى انْهِيَارِ الدُّوَلِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ عَلَّمَتْنَا قِصَّةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ أَنَّ العَاقِبَةَ للمُتَّقِينَ، طَالَ الزَّمَنُ أَمْ قَصُرَ، لِذَلِكَ لَا يَسَعُ العَبْدَ المُؤْمِنَ إِلَّا الصَّبْرُ وَالمُصَابَرَةُ مَعَ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ، وَلْيَذْكُرْ دَائِمَاً وَأَبَدَاً قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾. وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾.

وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الصَّابِرِينَ عَلَى طَاعَتِكَ، وَمِنَ الصَّابِرِينَ عَنْ مَعْصِيَتِكَ، وَمِنَ الصَّابِرِينَ عَلَى البَلَاءِ وَالمِحَنِ. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 12/ ربيع الثاني /1441هـ، الموافق: 9/ كانون الأول / 2019م