10ـ أهمية التصوف (3)

10ـ أهمية التصوف (3)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ سَيِّدِي العَارِفُ بِاللهِ تعالى، المُرْشِدُ الكَبِيرُ، سَيِّدِي وَمَوْلَايَ الشَّيْخُ عَبْدُ القَادِر عِيسَى رَحِمَهُ اللهُ تعالى، في كِتَابِهِ: حَقائِقُ عَنِ التَّصَوُّفِ:

  قَالَ ابْنُ زَكْوَانَ فِي فَائِدَةِ التَّصَوُّفِ وَأَهَمِّيَّتِهِ:

عِلْمٌ بِهِ تَصْفِيَــــةُ البَوَاطِـنْ  

 

مِنْ كَدَرَاتِ النَّفْسِ فِي الـمَوَاطِنْ  

قَالَ العَلَّامَةُ الـمَنْجُورِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا البَيْتِ: (التَّصَوُّفُ عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ كَيْفِيَّةُ تَصْفِيَةِ البَاطِنِ مِنْ كَدَرَاتِ النَّفْسِ، أَيْ عُيُوبِهَا وَصِفَاتِهَا الـمَذْمُومَةِ كَالغِلِّ وَالحِقْدِ وَالحَسَدِ وَالغِشِّ وَحُبِّ الثَّنَاءِ وَالكِبْرِ وَالرِّيَاءِ وَالغَضَبِ وَالطَّمَعِ وَالبُخْلِ وَتَعْظِيمِ الأَغْنِيَاءِ وَالاسْتِهَانَةِ بِالفُقَرَاءِ، لِأَنَّ عِلْمَ التَّصَوُّفِ يَطَّلِعُ عَلَى العَيْبِ وَالعِلَاجِ وَكَيْفِيَّتِهِ، فَبِعِلْمِ التَّصَوُّفِ يُتَوَصَّلُ إِلَى قَطْعِ عَقَبَاتِ النَّفْسِ وَالتَّنَزُّهِ عَنْ أَخْلَاقِهَا الـمَذْمُومَةِ وَصِفَاتِهَا الخَبِيثَةِ، حَتَّى يُتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إِلَى تَخْلِيَةِ القَلْبِ عَنْ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَتَحْلِيَتِهِ بِذِكْرِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى).

أَمَّا تَحْلِيَةُ النَّفْسِ بِالصِّفَاتِ الكَامِلَةِ، كَالتَّوْبَةِ وَالتَّقْوَى وَالاسْتِقَامَةِ وَالصِّدْقِ وَالإِخْلَاصِ وَالزُّهْدِ وَالوَرَعِ وَالتَّوَكُّلِ وَالرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ وَالأَدَبِ وَالـمَحَبَّةِ وَالذِّكْرِ وَالـمُرَاقَبَةِ...فَلِلصُّوفِيَّةِ بِذَلِكَ الحَظُّ الأَوْفَرُ مِنَ الوِرَاثَةِ النَّبَوِيَّةِ، فِي العِلْمِ وَالعَمَلِ.

قَدْ رَفَضُوا الآثَامَ وَالعُيُوبَا  

 

وَطَهَّرُوا الأَبْدَانَ وَالقُلُوبَا  

وَبَلَغُوا حَقِيقَةَ الإِيمَانَ  

 

وَانْتَهَجُوا مَنَاهِجَ الإِحْسَانِ  

فَالتَّصَوُّفُ هُوَ الذي اهْتَمَّ بِهَذَا الجَانِبِ القَلْبِيِّ بِالإِضَافَةِ إِلَى مَا يُقَابِلُهُ مِنَ العِبَادَاتِ البَدَنِيَّةِ وَالـمَالِيَّةِ، وَرَسَمَ الطَّرِيقَ العَمَلِيَّ الذي يُوصِلُ الـمُسْلِمَ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الكَمَالِ الإِيمَانِيِّ وَالخُلُقِيِّ، وَلَيْسَ ـ كَمَا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ ـ قِرَاءَةَ أَوْرَادٍ وَحِلَقَ أَذْكَارٍ فَحَسْبُ؛ فَلَقَدْ غَابَ عَنْ أَذْهَانِ الكَثِيرِينَ، أَنَّ التَّصَوُّفَ مَنْهَجٌ عَمَلِيٌّ كَامِلٌ، يُحَقِّقُ انْقِلَابَ الإِنْسَانِ مِنْ شَخْصِيَّةٍ مُنْحَرِفَةٍ إِلَى شَخْصِيَّةٍ مُسْلِمَةٍ مِثَالِيَّةٍ مُتَكَامِلَةٍ، وَذَلِكَ مِنَ النَّاحِيَةِ الإِيمَانِيَّةِ السَّلِيمَةِ، وَالعِبَادَةِ الخَالِصَةِ، وَالـمُعَامَلَةِ الصَّحِيحَةِ الحَسَنَةِ، وَالأَخْلَاقِ الفَاضِلَةِ.

وَمِنْ هُنَا تَظْهَرُ أَهَمِّيَّةُ التَّصَوُّفِ وَفَائِدَتُهُ، وَيَتَجَلَّى لَنَا بِوُضُوحٍ، أَنَّهُ رُوحُ الإِسْلَامِ وَقَلْبُهُ النَّابِضُ، إِذْ لَيْسَ هَذَا الدِّينُ أَعْمَالَاً ظَاهِرِيَّةً وَأُمُورَاً شَكْلِيَّةً فَحَسْبُ، لَا رُوحَ فِيهَا وَلَا حَيَاةَ.

وَمَا وَصَلَ الـمُسْلِمُونَ إِلَى هَذَا الدَّرْكِ مِنَ الانْحِطَاطِ وَالضَّعْفِ إِلَّا حِينَ فَقَدُوا رُوحَ الإِسْلَامِ وَجَوْهَرَهُ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهِمْ إِلَّا شَبَحُهُ وَمَظَاهِرُهُ.

لِهَذَا نَرَى العُلَمَاءَ العَامِلِينَ، وَالـمُرْشِدِينَ الغَيُورِينَ، يَنْصَحُونَ النَّاسَ بِالدُّخُولِ مَعَ الصُّوفِيَّةِ وَالْتِزَامِ صُحْبَتِهِمْ، كَيْ يَجْمَعُوا بَيْنَ جِسْمِ الإِسْلَامِ وَرُوحِهِ، وَلِيَتَذَوَّقُوا مَعَانِيَ الصَّفَاءِ القَلْبِيِّ وَالسُّمُوِّ الخُلُقِيِّ، وَلِيَتَحَقَّقُوا بِالتَّعَرُّفِ عَلَى اللهِ تَعَالَى الـمَعْرِفَةَ اليَقِينِيَّةَ، فَيَتَحَلُّوا بِحُبِّهِ وَمُرَاقَبَتِهِ وَدَوَامِ ذِكْرِهِ.

قَالَ حُجَّةُ الإِسْلَامِ الإِمَامُ الغَزَالِيُّ بَعْدَ أَنِ اخْتَبَرَ طَرِيقَ التَّصَوُّفِ، وَلَمَسَ نَتَائِجَهُ، وَذَاقَ ثَمَرَاتِهِ: (الدُّخُولُ مَعَ الصُّوفِيَّةِ فَرْضُ عَيْنٍ، إِذْ لَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنْ عَيْبٍ إِلَّا الأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ).

وَقَالَ أَبُو الحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (مَنْ لَمْ يَتَغَلْغَلْ فِي عِلْمِنَا هَذَا مَاتَ مُصِرَّاً عَلَى الكَبَائِرِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ). وَفِي هَذَا القَوْلِ يَقُولُ ابْنُ عَلَّانَ الصديقي (وَلَقَدْ صَدَقَ فِيمَا قَالَ - يَعْنِي أَبَا الحَسَنَ الشَّاذِلِيَّ- فَأَيُّ شَخْصٍ يَا أَخِي يَصُومُ وَلَا يُعْجَبُ بِصَوْمِهِ؟ وَأَيُّ شَخْصٍ يُصَلِّي وَلَا يُعْجَبُ بِصَلَاتِهِ؟ وَهَكَذَا سَائِرُ الطَّاعَاتِ).

وَلَمَّا كَانَ هَذَا الطَّرِيقُ صَعْبَ الـمَسَالِكِ عَلَى النُّفُوسِ النَّاقِصَةِ، فَعَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَازَهُ بِعَزْمٍ وَصَبْرٍ وَمُجَاهَدَةٍ حَتَّى يُنْقِذَ نَفْسَهُ مِنْ بُعْدِ اللهِ وَغَضَبِهِ.

قَالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (عَلَيْكَ بِطَرِيقِ الحَقِّ، وَلَا تَسْتَوْحِشْ لِقِلَّةِ السَّالِكِينَ، وَإِيَّاكَ وَطَرِيقَ البَاطِلِ، وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الهَالِكِينَ. وَكُلَّمَا اسْتَوْحَشْتَ مِنْ تَفَرُّدِكَ فَانْظُرْ إِلَى الرَّفِيقِ السَّابِقِ، وَاحْرِصْ عَلَى اللَّحَاقِ بِهِمْ، وَغُضَّ الطَّرْفَ عَنْ سِوَاهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ تَعَالَى شَيْئَاً، وَإِذَا صَاحُوا بِكَ فِي طَرِيقِ سَيْرِكَ فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ فَإِنَّكَ مَتَى الْتَفَتَّ إِلَيْهِمْ أَخَذُوكَ وَعَاقُوكَ).

رَحِمَ اللهُ تعالى شَيْخَنَا رَحْمَةً وَاسِعَةً، وَجَزَى اللهُ تعالى خَيْرَ الجَزَاءِ مَنْ قَالَ في حَقِّهِ:

وَعَـلَى أَبِي أَيُّـوبَ حَلَّ فَـقِيدُنَا    ***   ضَـيْـفَـاً فَـكَـانَ لَـهُ المَقَامُ الأَرْفَعُ

بِـجِوَارِ مَنْ نَزَلَ الحَبِيبُ بِدَارِهِ    ***   وَاخْتَارَهُ بِـالـفَـضْـلِ رَبٌّ مُـبْـدِعُ

وَلَهُ مِنَ الـشَّهْبَـاءِ أَصْـلٌ ثَابِتٌ   ***   وَعَلَى ذُرَا اسْتَنْبُولَ مَـثْـوَىً يَسْطَعُ

ذِكْرَاهُ إِنْ ذُكِرَتْ ذُكَاءُ فَمَشْرِقٌ    ***   وَسَنَاهُ إِنْ طَلَعَ الهِلَالُ فَـمَـطْـلِـعُ

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 13/ صفر الخير /1441هـ، الموافق: 11/تشرين الأول / 2019م