45- لا تعتمد على عملك

أخلاق وآداب

45- لا تعتمد على عملك

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾. وَيَقُولُ تعالى: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾.

مِنَ الأَدَبِ مَعَ اللهِ تعالى أَنْ نُعَظِّمَ حُرُمَاتِهِ وَشَعَائِرَهُ، لِأَنَّ تَعْظِيمَ الحُرُمَاتِ وَالشَّعَائِرِ تَعْظِيمٌ لِمَنْ أَمَرَ وَنَهَى، وَعَلَى قَدْرِ مَعْرِفَةِ الآمِرِ وَالنَّاهِي عَلَى قَدْرِ مَا يَكُونُ التَّعْظِيمُ، وَكُلُّ مَنْ جَهِلَ الآمِرَ وَالنَّاهِيَ قَلَّ تَعْظِيمُهُ وَقَلَّ حَيَاؤُهُ.

يَقُولُ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: تَعْظِيمُ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا خَوْفَاً مِنَ العُقُوبَةِ، فَتَكُونُ خُصُومَةً للنَّفْسِ، وَلَا طَلَبَاً للمَثُوبَةِ، فَيَكُونُ مُسْتَشْرِفَاً للآخِرَةِ، وَلَا مُشَاهَدَاً لِأَحَدٍ فَيَكُونُ مُتَزَيِّنَاً بِالمُرَاءَاةِ. اهـ.

يَقُولُ تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلَاً صَالِحَاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً﴾.

فَالأَدَبُ مَعَ اللهِ تعالى أَنْ تَمْتَثِلَ أَمْرَهُ وَتَجْتَنِبَ نَهْيَهُ لِأَنَّهُ إِلَهٌ يَسْتَحِقُّ العِبَادَةَ، لِأَنَّهُ أَوْجَدَ لَكَ قَبْلَ أَنْ يُوجِدَكَ، وَخَلَقَ لَكَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَكَ، فَخَلَقَ الدُّنْيَا مِنْ أَجْلِكَ وَكَانَتْ قَبْلَكَ ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدَاً﴾.

وَخَلَقَ الجَنَّةَ قَبْلَ انْتِقَالِكَ للآخِرَةِ ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾. أَفَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ تَعْبُدَهُ مُتَجَرِّدَاً مِنْ سَائِرِ حُظُوظِكَ؟ المُحِبُّ لَا حَظَّ لَهُ مَعَ مَحْبُوبِهِ، فَمَنْ وَقَفَ مَعَ حَظٍّ مِنْ حُظُوظِهِ مَعَ مَحْبُوبِهِ جَعَلَ عِلَّةً في مَحَبَّتِهِ، وَإِنْ طَمِعَ في ثَوَابٍ عَلَى عَمَلِهِ فَقَدْ أَحْسَنَ الظَّنَّ بِعَمَلِهِ، وَاللهُ تعالى يَصِفُ عِبَادَهُ أَهْلَ الخَشْيَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾.

لَا تَعْتَمِدْ عَلَى عَمَلِكَ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ الأَدَبِ مَعَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَقُومَ كُلُّ عَبْدٍ بِمَا كَلَّفَهُ اللهُ تعالى بِهِ، ثُمَّ يَعْتَمِدَ عَلَى رَحْمَةِ اللهِ تعالى في دُخُولِهِ الجَنَّةَ، وَذَلِكَ لِمَا رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَاً عَمَلُهُ الجَنَّةَ».

قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «لَا، وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَلَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ: إِمَّا مُحْسِنَاً فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرَاً، وَإِمَّا مُسِيئَاً فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَا يَنْبَغِي عَلَى أَحَدِنَا أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى عَمَلِهِ، لِأَنَّ العِبَادَةَ هِيَ حَقُّ اللهِ تعالى عَلَيْنَا، وَإِنْ عَفَا اللهُ تعالى عَنَّا بَعْدَ العِبَادَةِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الفَضْلِ.

روى الإمام البخاري عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ، فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ؟».

قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئَاً، وَحَقَّ العِبَادِ عَلَى اللهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئَاً».

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟

قَالَ: «لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا».

لِذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ تَجْرِيدِ القِيَامِ بِالأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ كُلِّ عِلَّةٍ، وَأَنْ نَقُومَ بِهِ تَعْظيمَاً للآمِرِ وَالنَّاهِي، لِأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُعْبَدَ وَتُعَظَّمَ أَوَامِرُهُ وَشَعَائِرُهُ وَحُرُمَاتُهُ، وَيَسْتَحِقُّ العِبَادَةَ وَالتَّعْظِيمَ وَالإِجْلَالَ لِذَاتِهِ وَلِكَمَالَاتِهِ التي لَا حَدَّ لَهَا، وَلِصِفَاتِهِ التي لَا أَوَّلَ لَهَا وَلَا آخِرَ.

فَلَو لَمْ يَخْلُقْ رَبُّنَا جَنَّةً وَلَا نَارَاً أَفَلَا يَسْتَحِقُّ العِبَادَةَ؟ سُبْحَانَكَ يَا رَبُّ، فَلَكَ الحَمْدُ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ، وَعَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ.

وَرَحِمَ اللهُ مَنْ قَالَ:

هَـبِ الـبَـعْـثَ لَمْ تَأْتِنَا رُسُلُهُ   ***   وَجَـاحِـمَـةُ الـنَّـارِ لَـمْ تُضْرَمِ

أَلَيْسَ مِنَ الوَاجِبِ المُسْتَحَقِّ    ***   عَلَى ذِي الوَرَى الشُّكْرُ للمُنْعِمِ

هُوَ إِلَهٌ يَسْتَحِقُّ العِبَادَةَ وَالتَّعْظِيمَ لِشَعَائِرِهِ وَحُرُمَاتِهِ لِنِعَمِهِ السَّابِقَةِ مِنْهُ فَضْلَاً وَاللَّاحِقَةِ فَضْلَاً، وَلَو دَقَّقَ صَاحِبُ الأَدَبِ لَوَجَدَ الأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ مِنْ جُمْلَةِ النِّعَمِ التي يَسْتَحِقُّ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ الشُّكْرَ عَلَيْهَا.

تَدَبَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾. وَتَدَبَّرُوا قَوْلَهُ جَلَّ في عُلَاهُ: ﴿الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا﴾. فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الحَمْدَ وَالثَّنَاءَ وَالتَّعْظِيمَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ التي هِيَ مِنَ النِّعَمِ لِأَبْدَانِنَا، وَيَسْتَحِقُّ الحَمْدَ وَالثَّنَاءَ عَلَى نِعْمَةِ الكِتَابِ المُتَضَمِّنِ للأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي لِأَنَّهَا نِعَمٌ لِقُلُوبِنَا وَأَرْوَاحِنَا، بَلْ هِيَ رُوحُ أَرْوَاحِنَا وَهِيَ سِرُّ حَيَاتِنَا، تَدَبَّرُوا قَوْلَهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ مَا هَذِهِ الحَيَاةُ التي دَعَانَا إِلَيْهَا؟

تَدَبَّرُوا قَوْلَهُ تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارَاً﴾. أَلَيْسَ القُرْآنُ العَظِيمُ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَيْنَا، بَلْ مِنْ أَعْظَمِهَا؟

تَدَبَّرُوا قَوْلَهُ تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾. لِمَاذَا سَمَّى اللهُ تعالى سَيِّدَنَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالرُّوحِ؟

تَدَبَّرُوا قَوْلَهُ تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحَاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورَاً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَو تَدَبَّرْنَا هَذِهِ الآيَاتِ وَأَمْثَالَهَا التي تُحَدِّثُنَا عَنِ القُرْآنِ وَأَثَرِهِ في نُفُوسِنَا، وَمِثْلُ قَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدَىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾. وَمِثْلُ قَوْلِهِ تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدَىً وَشِفَاءٌ﴾. أَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ التي يَسْتَحِقُّ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ الشُّكْرَ عَلَيْهَا.

لِذَلِكَ رَأَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُجَسِّدُ هَذِهِ الحَقِيقَةَ «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدَاً شَكُورَاً»؟ رواه الإمام البخاري عَنِ المُغِيرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَالأَدَبُ مَعَ اللهِ تعالى أَنْ تُجَرِّدَ قِيَامَكَ بِالأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ كُلِّ عِلَّةٍ، وَتَكُونُ عِلَّةُ الامْتِثَالِ عُبُودِيَّتَكَ للهِ تعالى، وَتَعْظِيمَكَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَتَعْظِيمَكَ لِشَعَائِرِهِ وَحُرُمَاتِهِ، وَأَنَّهُ إِلَهٌ يَسْتَحِقُّ العِبَادَةَ.

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا الإِخْلَاصَ في القَوْلِ وَالعَمَلِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لَكَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ.

أَسْأَلُكَ يَا رَبِّ الفِرْدَوْسَ الأَعْلَى وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهِ مِنْ قَوْلٍ أَو عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ سَخَطِكَ وَغَضَبِكَ وَالنَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهِمْ مِنْ قَوْلٍ أَو عَمَلٍ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 25/ صفر الخير /1441هـ، الموافق: 23/ تشرين الأول / 2019م