11ـ الشيخ محمد الحنيفي الحلبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى

11ـ الشيخ محمد الحنيفي الحلبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى

 1292/1342هـ 1875/1923م

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

هُوَ العَالِمُ الفَاضِلُ وَالأَلْمَعِيُّ الكَامِلُ أَحَدُ مَنْ تَزَيَّنَتْ حَلَبُ الشَّهْبَاءُ بِسَمِيِّ فَضْلِهِ، وَاسْتَضَاءَتْ أَرْجَاءُهَا بِنُورِ عِلْمِهِ، وَتَعَطَّرَتْ أَجْوَاءُهَا بِطِيبِ سِيرَتِهِ، الشَّيْخُ مُحَمَّد الحَنِيفِيُّ الحَلَبِيُّ، وُلِدَ الشَّيْخُ مُحَمَّد الحَنِيفِيُّ في حَلَبَ عَامَ 1292هـ 1875م وَلَمَّا تَرَعْرَعَ دَخَلَ مَدْرَسَةَ الصَّنَائِعِ، ثُمَّ انْتَظَمَ في سِلْكِ العُلُومِ الدِّينِيَّةِ، وَلَازَمَ الحُضُورَ عَلَى مُفْتِي حَلَبَ الشَّيْخِ بَكْري الزُّبَرِي، وَعَلَى الشَّيْخِ إِبْرَاهِيم اللَّبَابِيدِي، وَعَلَى الشَّيْخِ رَاجِي مِكْنَاس.

ذَهَبَ الشَّيْخُ مُحَمَّد الحَنِيفِيُّ إلى مِصرَ أَوَاخِرَ عَامِ 1314هـ 1896م وَدَخَلَ الأَزْهَرَ، وَهُنَاكَ قَرَأَ عَلَى شَيْخِ الدِّيَارِ المِصْرِيَّةِ الشَّيْخِ مُحَمَّد بَخِيت عِلْمَ التَّوْحِيدِ وَالأُصُولِ، وَقَرَأَ عِلْمَ الفَرَائِضِ عَلَى الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ البَحْرَاوِيِّ الفَقِيهِ الحَنَفِيِّ المَشْهُورِ، وَقَرَأَ عَلَى الشَّيْخِ مُحَمَّد عَبْدُهُ مُفْتِي الدِّيَارِ المِـصْرِيَّةِ رِسَالَتَهُ في التَّوْحِيدِ.

عَادَ الشَّيْخُ مُحَمَّد إلى وَطَنِهِ حَلَبَ أَوَاخِرَ عَامِ 1318هـ 1900م بَعْدَ أَنْ أَمْـضَى أَرْبَعَ سَنَوَاتٍ في الأَزْهَرِ الشَّرِيفِ، وَعِنْدَ رُجُوعِهِ إلى بَلَدِهِ جَاوَرَ في المَدْرَسَةِ العُثْمَانِيَّةِ، وَقَرَأَ عَلَى الشَّيْخِ الفَقِيهِ العَلَّامَةِ مُحَمَّد الزَّرْقَا في صَحِيحِ الإِمَامِ البُخَارِيِّ؛ وَقَدْ دَرَّسَ الشَّيْخُ مُحَمَّد الحَنِيفِيُّ مَادَّةَ التَّفْسِيرِ وَالتَّوْحِيدِ وَعِلْمَ المَعَانِي وَالبَيَانِ في المَدْرَسَةِ الخُـسْرَوِيَّةِ بَعْدَ افْتِتَاحِهَا مُبَاشَرَةً.

كَانَ الشَّيْخُ مُحَمَّد الحَنِيفِيُّ حَسَنَ الخُلُقِ، مَحْمُودَ السِّيرَةِ، صَافِيَ القَلْبِ، شَرِيفَ النَّفْسِ، نَاصِحَاً في دِينِهِ، لَا يَجِدُ الغِشُّ مَسْلَكَاً إلى قَلْبِهِ، وَلَا الخِدَاعُ مَوْطِنَاً في سَرِيرَتِهِ، رَقِيقَ الطَّبْعِ، حَسَنَ العِـشْرَةِ، وَكَانَتْ للشَّيْخِ مُحَمَّد الحَنِيفِيِّ اليَدُ الطُّولَى في عِلْمِ التَّوْحِيدِ وَالتَّفْسِيرِ وَالأُصُولِ وَالفِقْهِ وَالمَعَانِي وَالبَيَانِ، مَعَ حُسْنِ التَّقْرِيرِ وَالـشَّرْحِ لِتَلَامِيذِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ مَنْ قَرَأَ عَلَيْهِ أَنَّ تَقْرِيرَهُ كَانَ يَدْخُلُ إلى الآذَانِ بِلَا اسْتِئْذَانٍ، وَكَانَ ذَا هِمَّةٍ عَالِيَةٍ في دُرُوسِهِ، لَا تِجِدُهُ إِلَّا في مُطَالَعَةٍ، لَا يَعْرِفُ الكَلَلَ وَلَا المَلَلَ، يُحِبُّ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ، وَيَسْعَى إلى نَـشْرِهَا، فَلَمْ يَـقْتَصِرْ سَعْيُهُ في تَعْلِيمِهَا في المَدَارِسِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَطْ، بَلْ كَانَ يَسْعَى لِنَشْرِهَا في دَارِ المُعَلِّمِينَ أَيْضَاً، وَكَانَ شَدِيدَ الاهْتِمَامِ في أَمْرِ الأُمَّةِ الإِسْلَامِيَّةِ، وَهُوَ مِمَّنْ تَشَبَّعَتْ أَفْكَارُهُ في لُزُومِ إِصْلَاحِ أَحْوَالِهَا العِلْمِيَّةِ وَالأَخْلَاقِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ، لِتَنْهَضَ مِنْ كَبْوَتِهَا وَتَسْتَعِيدَ سَابِقَ مَنْزِلَتِهَا، وَلَو طَالَ أَجَلُ الشَّيْخِ لَقَامَ بِخَدَمَاتٍ جُلَّى نَحْوَ بِلَادِهِ وَأَوْطَانِهِ، وَكَانَ يَمِيلُ إلى لُزُومِ تَشكِيلِ لَجْنَةٍ عِلْمِيَّةٍ مِنَ المُتَخَصِّصِينَ في العُلُومِ الفِقْهِيَّةِ تَضَعُ كِتَابَاً في الفِقْهِ عَلَى نَسَقِ مَجَلَّةِ الأَحْكَامِ المَدَنِيَّةِ، يَكُونُ هَذَا الكِتَابُ وَاسِعَاً وَافِيَاً لِحَاجَةِ النَّاسِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ أَعْضَاءُ هَذِهِ اللَّجْنَةِ فَوْقَ السَّعَةِ في العِلْمِ وَالمَدَارِكِ أَنْ يَكُونُوا مِنَ المُتَمَسِّكِينَ بِدِينِهِمْ، البَعِيدِينَ عَنِ الأَغْرَاضِ الشَّخْصِيَّةِ وَالأَهْوَاءِ النَّفْسِيَّةِ.

تَرَكَ الشَّيْخُ مُحَمَّد الحَنِيفِيُّ للمَكْتَبَةِ الإِسْلَامِيَّةِ عِدَّةَ مُؤَلَّفَاتٍ مُفِيدَةٍ:

1ـ مُخْتَصَرُ دَلَائِلِ الإِعْجَازِ للإِمَامِ الجُرْجَانِيِّ في عِلْمِ المَعَانِي.

2ـ المِنْهَاجُ السَّدِيدُ في شَرْحِ مَنْظُومَةِ جَوْهَرَةِ التَّوْحِيدِ.

3ـ كِتَابُ أُسْوَةِ الأَبْرَارِ بِالنَّبِيِّ المُخْتَارِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

4ـ كِتَابٌ في أُصُولِ الفِقْهِ عُنْوَانُهُ: المَقَاصِدُ السَّنِيَّةُ شَرْحُ القَوَاعِدِ الكَرْخِيَّةِ.

5ـ مَنْظُومَةٌ جَمَعَ فِيهَا مَعَانِي الحُرُوفِ العَرَبِيَّةِ تَبْلُغُ مِائَةَ بَيْتٍ عُنْوَانُهَا: الفَيْضُ الرَّؤُوفُ في مَعَانِي الحُرُوفِ.

6ـ رِسَالَةٌ في الحُرُوفِ ضَمَّنَهَا كَثِيرَاً مِنَ الأَبْحَاثِ الاجْتِمَاعِيَّةِ.

7ـ رِسَالَةٌ في عَادَاتِ العَرَبِ قَبْلَ الإِسْلَامِ.

8ـ كِتَابٌ كَبِيرٌ في اللُّغَةِ يَبْحَثُ في أُصُولِ فِقْهِ اللُّغَةِ وَاشْتِقَاقِهَا؛ وَغَيْرُهَا.

في عَامِ 1342هـ 1923م ذَهَبَ إلى الدِّيَارِ المُقَدَّسَةِ لِأَدَاءِ فَرِيضَةِ الحَجِّ، وَبَعْدَ أَدَائِهِ مَنَاسِكَ الحَجِّ عَادَ في الخَامِسِ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ ذِي الحِجَّةِ إلى مَدِينَةِ جِدَّةَ، وَلَمَّا كَانَ في مُنْتَصَفِ الطَّرِيقِ لَفَحَتْهُ الرَّمْضَاءُ فَتَوَعَّكَ وَانْحَلَّتْ قِوَاهُ نَتِيجَةَ حُمَّى شَدِيدَةٍ، وَقَدِ اشْتَدَّ عَلَيْهِ المَرَضُ بَعْدَ وُصُولِهِ إلى جِدَّةَ وَفَاضَتْ رُوحُهُ الكَرِيمَةُ لَيْلَةَ السَّادِسِ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ ذِي الحِجَّةِ، وَدُفِنَ في تِلْكَ الدِّيَارِ؛ وَلَمَّا جَاءَ نَبَأُ نَعْيِهِ إلى حَلَبَ أَسِفَ النَّاسُ عَلَيْهِ أَسَفَاً شَدِيدَاً وَبَكَى الكَثِيرُ لِأُفُولِ نُورِ شَمْسِهِ الذي كَانَ سَاطِعَاً في سَمَاءِ حَلَبَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ المُصَابَ بِهِ كَانَ جَلَلَاً، فَقَدْ كَانَ حَسَنَةً مِنْ حَسَنَاتِ حَلَبَ الشَّهْبَاءَ، وَدُرَّةً يَتِيمَةً في تَاجِ هَذَا العَصْرِ، وَقَدْ أَقَامَتِ المَدْرَسَةُ الفُارُوقِيَّةُ مَأْتَمَ عَزَاءٍ حَـضَرَهُ أَقْرَانُهُ مِنْ عُلَمَاءِ حَلَبَ وَتَلَامِيذُهُ مِنْ عُلَمَائِهَا؛ فَرَثَاهُ تِلْمِيذُهُ النَّجِيبُ الشَّيْخُ مُحَمَّد الحَكِيم بِقَصِيدَةٍ طَوِيلَةٍ مَطْلَعُهَا:

ذَهَـبَ الـزَّمَانُ بِنَيِّرِ العُلَمَاءِ    ***   فَاليَوْمَ نَحْنُ نَخُوضُ في الظَّلْمَاءِ

ذَهَبَ الحَنِيفِي رَاغِبَاً في رَبِّهِ   ***   فَـهَـتَكْتُ دِرْعَ تَصَبُّرِي وَعَزَائِي

كَمَا رَثَاهُ تِلْمِيذُهُ الشَّيْخُ مُصْطَفَى الزَّرْقَا بِقَصِيدَةٍ طَوِيلَةٍ مَطْلَعُهَا:

مَـا للـعُيُونِ نَوَاظِرَاً لَمْ تَجْمُدِ    ***   مَا للقُلُوبِ نَوَابِضَاً لَمْ تَخْـمُـدِ

مَا للنُّفُوسِ خَوَافِقَاً لَمْ تَكْمَدِ   ***   جَزَعَاً عَلَى عَلَمِ العُلُومِ مُحَمَّدِ

رَحِمَ اللهُ الشَّيْخَ العَلَّامَةَ الحَنِيفِيَّ، وَأَسْكَنَهَ فَسِيحَ جَنَّاتِهِ وَسَائِرَ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ؛ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 8/ جمادى الأولى/1439هـ، الموافق: 25/ كانون الثاني / 2018م