14ـ الشيخ محمد راغب الطباخ رَحِمَهُ اللهُ تعالى

14ـ الشيخ محمد راغب الطباخ رَحِمَهُ اللهُ تعالى 1292/1370هـ 1875/1951م

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

هُوَ الشَّيْخُ مُحَمَّد رَاغِب بْنُ مَحْمُود بْنِ هَاشِم المَشْهُورِ بِالطَّبَّاخِ، وُلِدَ في مَدِينَةِ حَلَبَ بِحَيِّ بَابِ قـنسرين في أُسْرَةٍ عُرِفَتْ بِالعِلْمِ وَالتَّصَوُّفِ وَالتِّجَارَةِ، وَقَدْ نَشَأَ وَفِي نَفْسِهِ رَغْبَةٌ مُلِحَّةٌ تَدْعُوهُ لِمُتَابَعَةِ النَّهْجِ الذي سَارَتْ عَلَيْهِ أُسْرَتُهُ.

بَدَأَ بِالتَّعَلُّمِ في الكَتَاتِيبِ وَحَفِظَ القُرْآنَ الكَرِيمَ وَهُوَ في الثَّامِنَةِ مِنْ عُمُرِهِ، وَتَلَقَّى أُصُولَ الكِتَابَةِ وَالخَطِّ عَلَى الشَّيْخِ مُحَمَّد العَرِّيفِ، ثُمَّ دَرَسَ في المَدْرَسَةِ المَنْصُورِيَّةِ بِمَحَلَّةِ الفَرَافِرَةِ، وَكَانَتْ مَدْرَسَةً ابْتِدَائِيَّةً مِنَ المَدَارِسِ التي أَسَّسَتْهَا الدَّوْلَةُ العُثْمَانِيَّةُ؛ وَلَمَّا بَلَغَ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِهِ ذَهَبَ بِصُحْبَةِ وَالِدِهِ إلى الحِجَازِ وَأَدَّيَا فَرِيضَةَ الحَجِّ 1308هـ وَبَعْدَ عَوْدَتِهِ رَاحَ يُسَاعِدُ وَالِدَهُ في التِّجَارَةِ، وَإلى جَانِبِ ذَلِكَ كَانَ يَتَرَدَّدُ عَلَى بَعْضِ المَعَاهِدِ الـشَّرْعِيَّةِ وَلَا سِيَّمَا المَدْرَسَةَ الشَّعْبَانِيَّةَ، وَيَحْضُرُ حَلَقَاتِ الدُّرُوسِ فِيهَا، فَحَفِظَ الآجْرُومِيَّةَ في النَّحْوِ، وَالجَوْهَرَةَ في التَّوْحِيدِ، وَشَيْئَاً مِنْ أَلْفِيَّةِ ابْنِ مَالِكٍ، وَقَرَأَ الفُصُولَ الفِكْرِيَّةَ في النَّحْوِ عَلَى ابْنِ خَالِهِ الشَّيْخِ مُحَمَّد كلزيَّة الذي كَانَ مُجَاوِرَاً في الشَّعْبَانِيَّةِ.

كَانَ الشَّيْخُ مُحَمَّد رَاغِب في حَيَاتِهِ العِلْمِيَّةِ مِثَالَ الأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ وَالإِخْلَاصِ، يَتَحَلَّى بِالمُثَابَرَةِ وَالبَحْثِ وَالجِدِّ وَكَثْرَةِ القِرَاءَةِ وَالاطِّلَاعِ عَلَى مُخْتَلَفِ الكُتُبِ وَالمَصَادِرِ، بَلْ نَسَخَ بِخَطِّهِ كَثِيرَاً مِنْهَا، مِثْلَ: كِتَابِ دُرِّ الحَبَبِ للحَنْبَلِيِّ، وَالدُّرِّ المُنْتخَبِ في تَارِيخِ مَمْلَكَةِ حَلَبَ المَنْسُوبِ لابْنِ الشحنة، وَكِتَابِ غَرِيبِ القُرْآنِ للسجستاني، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُطْبَعَ هَذِهِ الكُتُبُ، إلى جَانِبِ اشْتِغَالِهِ بِالتِّجَارَةِ.

وَكَانَ كَثِيرَ التَّرَدُّدِ عَلَى جَهَابِذَةِ عُلَمَاءِ حَلَبَ الذينَ كَانُوا يَحْمِلُونَ رَايَةَ العِلْمِ حِينَئِذٍ، مِنْهُمُ الشَّيْخُ مُحَمَّد كلزيَّةِ، وَالشَّيْخُ مُحَمَّد رِضَا، وَالشَّيْخُ مُحَمَّد الزَّرْقَا، وَالشَّيْخُ بَشِير الغُزِّي، رَحِمَهُمُ اللهُ تعالى.

كَانَ الشَّيْخُ مُحَمَّد رَاغِب كَثِيرَ التَّرَحَالِ للاجْتِمَاعِ بِأَفَاضِلِ العُلَمَاءِ وَتَبَادُلِ الآرَاءِ مَعَهُمْ، وَرُبَّما كَانَ عَمَلُهُ في التِّجَارَةِ سَبَبَاً لِكَثْرَةِ أَسْفَارِهِ، وَكَانَ يَقُومُ بِمُرَاسَلَاتٍ كَثِيرَةٍ مَعَ عُلَمَاءِ البِلَادِ العَرَبِيَّةِ، مِثْلَ عِيسَى اسْكَنْدَر المَعْلُوفِ، وَأَحْمَد تيمور باشا، وَالأَمِير شكيب أرسلان.

كَمَا كُلِّفَ الشَّيْخُ مُحَمَّد رَاغِب بِالتَّدْرِيسِ رَغْمَ كُلِّ نَشَاطَاتِهِ المُخْتَلِفَةِ، فَقدْ عُيِّنَ في أَوَّلِ الأَمْرِ بِمَدْرَسَةِ شَمْسِ المَعَارِفِ، وَعِنْدَمَا أُغْلِقَتْ انْتَقَلَ للتَّدْرِيسِ في المَدْرَسَةِ الخُسْرَوِيَّةِ في حَلَبَ، فَدَرَّسَ فِيهَا اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ وَالتَّارِيخَ وَالثَّقَافَةَ الإِسْلَامِيَّةَ، ثُمَّ عُيِّنَ مُدِيرَاً لَهَا، وَكَانَ لَهُ فَضْلٌ كَبِيرٌ في تَأْسِيسِهَا وَتَعْدِيلِ بَرَامِجِهَا بِمَا يُوَافِقُ العَصْرَ الحَدِيثَ، وَلَمْ تَقْتَصِرْ جُهُودُهُ في إِصْلَاحِ المَدْرَسَةِ الخُسْرَوِيَّةِ، بَلْ تَعَدَّى ذَلِكَ الإِصْلَاحُ إلى بَقِيَّةِ المَدَارِسِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَا سِيَّمَا المَدْرَسَتَيْنِ الشَّعْبَانِيَّةِ وَالعُثْمَانِيَّةِ.

وَقَدْ تَوَلَّى الشَّيْخُ مُحَمَّد رَاغِب في حَيَاتِهِ عَدَدَاً مِنَ المَنَاصِبِ العِلْمِيَّةِ، إِذْ كَانَ عُضْوَاً في مَجْلِسِ مَعَارِفِ حَلَبَ عَام 1910م كَمَا كَانَ عُضْوَاً في المَجْمَعِ العِلْمِيِّ العَرَبِيِّ عَامَ 1923م وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ المَنَاصِبِ.

أَمَّا حَيَاتُهُ الاجْتِمَاعِيَّةِ فَقَدْ كَانَتْ زَاخِرَةً بِالنَّشَاطِ وَالحَرَكَةِ وَالعَمَلِ في سَبِيلِ الخَيْرِ، خَيْرِ بَلَدِهِ وَأُمَّتِهِ وَدِينِهِ، لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ أَبْنَاءِ وَطَنِهِ، بَلْ يَسْعَى إلى نَشْرِ التَّسَامُحِ وَالمُعَامَلَةِ الحَسَنِةِ، وَسَعَى إلى إِنْشَاءِ جَمْعِيَّةِ البِرِّ وَالأَخْلَاقِ الإِسْلَامِيَّةِ التي كَانَ لَهَا الأَثَرُ الحَمِيدُ في أَعْمَالِ البِرِّ وَمُكَافَحَةِ الأُمِّيَّةِ، وَخَتَمَ حَيَاتَهُ بِرِئَاسَةِ رَابِطَةِ العُلَمَاءِ بِحَلَبَ حَتَّى وَافَتْهُ المَنِيَّةُ، وَقَدْ مُنِحَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِعَامَيْنِ وِسَامَ الاسْتِحْقَاقِ السُّورِيِّ مِنَ الدَّرَجَةِ الأُولَى.

كَانَ الشَّيْخُ مُحَمَّد رَاغِب دَائِمَ البِشْرِ، وَاسِعَ الصَّدْرِ، حَسَنَ المُلَاقَاةِ، لَا يَأْلُو جُهْدَاً في قَضَاءِ حَوَائِجِ النَّاسِ، كَانَ يُحِبُّ البَحْثَ العِلْمِيَّ، وَيَكْرَهُ الجَدَلَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ نَشْأَتَهُ في بَيْتٍ مَعْرُوفٍ بِالتُّقَى وَالصَّلَاحِ، كَانَتْ عَامِلَاً أَسَاسِيَّاً في تَقْوَاهُ وَطِيبِ سَرِيرَتِهِ، وَجَمِيلِ أَخْلَاقِهِ.

يُعَدُّ الشَّيْخُ مُحَمَّد رَاغِب مِنَ العُلَمَاءِ المُعَاصِرِينَ الذينَ شَارَكُوا بِنَصِيبٍ وَافِرٍ في الثَّقَافَةِ الحَدِيثَةِ، وَإِحْيَاءِ المَآثِرِ الفِكْرِيَّةِ وَالعِلْمِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَّسَ المَطْبَعَةَ العِلْمِيَّةَ عَامَ 1922م وَطَبَعَ فِيهَا مُؤَلَّفَاتِهِ، كَمَا نَـشَرَ نَفَائِسَ الكُتُبِ التُّرَاثِيَّةِ القَدِيمَةِ في التَّارِيخِ وَالحَدِيثِ الشَّرِيفِ وَاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ وَالأَدَبِ؛ وَقَصْدُهُ مِنْ ذَلِكَ نَـشْرُ العِلْمِ وَتَسْهِيلُ الاسْتِفَادَةِ وَتَيْسِيرُ الثَّقَافَةِ، وَقَدْ ضَحَّى بِالكَثِيرِ في سَبِيلِ تَحْقِيقِ هَذِهِ الأُمْنِيَةِ، وَقَدْ قَضَى نَحْبَهُ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ مَشْرُوعَاتِهِ العِلْمِيَّةَ، فَمِنَ الكُتُبِ التي طَبَعَهَا في مَطْبَعَتِهِ: مَعَالِمُ السُّنَنِ للخَطَّابِيِّ البُسْتِيِّ، وَعُلُومُ الحَدِيثِ المَعْرُوفُ بِمُقَدِّمَةِ ابْنِ الصَّلَاحِ، وَالكَوْكَبُ السَّارِي في حَقِيقَةِ الجُزْءِ الاخْتِيَارِيِّ لِعَبْدِ الغَنِي الـنَّابُلْسِيِّ، وَالقُرَبُ في فَضْلِ العَرَبِ لِعَبْدِ الرَّحِيمِ العِرَاقِيٍّ.

أَمَّا مُؤَلَّفَاتُهُ التي طَبَعَهَا في حَيَاتِهِ: 1ـ أَعْلَامُ النُّبلَاءِ بِتَارِيخِ حَلَبَ الشَّهْبَاءِ، وَهُوَ سَبْعُ مُجَلَّدَاتٍ، وَهُوَ مِنْ أَهَمِّ كُتُبِهِ. 2ـ الأَنْوَارُ الجَلِيَّةُ في مُخْتَصَرِ الأَثْبَاتِ الحَلَبِيِّةِ. 3ـ تَمْرِينُ الطُّلَّابِ في صِنَاعَةِ الإِعْرَابِ. 4ـ عِظَةُ الأَبْنَاءِ بِتَارِيخِ الأَنْبِيَاءِ. 5ـ المِصْبَاحُ عَلَى مُقَدِّمَةِ ابْنِ الصَّلَاحِ. 6ـ المَطَالِبُ العَلِيَّةُ في الدُّرُوسِ الدِّينِيَّةِ؛ وَغَيْرِهَا.

وَلَهُ مُؤَلَّفَاتٌ مَا زَالَتْ مُخْطُوطَةً: 1ـ الثَّقَافَةُ الدّينِيَّةُ. 2ـ الفَتْحُ المُبِينُ عَلَى نُورِ اليَقِينِ في سِيرَةِ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

تُوُفِّيَ الشَّيْخُ مُحَمَّد رَاغِب الطَّبَّاخِ في عَامِ 1370هـ 1951م، وَشُيِّعَ جُثْمَانُهُ بِمَوْكِبٍ اشْتَرَكَ فِيهِ لَفِيفٌ مِنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ حَلَبَ، وَالشَّخْصِيَّاتُ الرَّسْمِيَّةُ، وَالنُّوَّابُ، وَالأَعْيَانُ، وَالأَصْدِقَاءُ، وَبَعْدَ أَنْ صَلُّوا عَلَيْهِ دُفِنَ في مَقْبَرَةِ السَّنَابِلَةِ في حَلَبَ. رَحِمَ اللهُ تعالى الشَّيْخَ مُحَمَّد رَاغِب وَسَائِرَ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ؛ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 29/ جمادى الأولى/1439هـ، الموافق: 15/ شباط / 2018م