21ـ الشيخ جميل العقاد رَحِمَهُ اللهُ تعالى (1)

21ـ الشيخ جميل العقاد رَحِمَهُ اللهُ تعالى (1)

1310/1387هـ 1893/1968م

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

هُوَ الشَّيْخُ جَمِيل بْنُ الشَّيْخِ مُحَمَّد ياسين العَقَّاد، وُلِدَ في حَيِّ الجَلُّومِ بِمَدِينَةِ حَلَبَ، مِنْ أَبَوَيْنِ كَرِيمَيْنِ وَأُسْرَةٍ ذَاتِ عِلْمٍ وَدِينٍ، فَقَدْ كَانَ وَالِدُهُ الشَّيْخُ مُحَمَّد يَاسِين إِمَامَاً وَخَطِيبَاً في جَامِعِ أَبِي درجين، في مَحَلَّةِ الجَلُّومِ، وَقَدِ اعْتَنَى بِوَلَدِهِ الشَّيْخِ جَمِيل فَحَفِظَ القُرْآنَ عَلَى يَدَيْهِ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سَنَوَاتٍ، كَمَا لَقَّنَهُ الكَثِيرَ مِنَ المُتُونِ الفِقْهِيَّةِ وَاللُّغَوِيَّةِ، وَبِدَايَةِ عِلْمِ الحِسَابِ وَالعَرُوضِ، مِمَّا أَهَّلَ الشَّيْخَ جَمِيل إلى أَنْ يَكُونَ مُدَرِّسَاً في المَدْرَسَةِ الفَارُوقِيَّةِ التي تَخَرَّجَ مِنْهَا آنَذَاكَ عَدِيدٌ مِن مُثَقَّفِي البَلَدِ وَقِيَادَاتِهِ.

ثُمَّ إِنَّ الشَّيْخَ جَمِيل كَانَتْ نَفْسُهُ تَتُوقُ إلى مَزِيدٍ مِنَ العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ، فَقَرَّرَ السَّفَرَ إلى الأَزْهَرِ الشَّرِيفِ عَام 1922 م، حَيْثُ تَتَلْمَذَ عَلَى ثُلَّةٍ مِنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ الأَزْهَرِ، مِنْهُمْ: الشَّيْخُ مُحَمَّد بخيت المطيعي، وَالشَّيْخُ أحمد مصطفى المراغي، وَالشَّيْخُ مُحَمَّد الخضر الحسين، وَالشَّيْخُ مُحَمَّد عبدُ المُطَّلِب، وَالشَّيْخُ عِيسى سلامة، رَحِمَهُمُ اللهُ تعالى.

وَقَدْ حَصَلَ الشَّيْخُ جَمِيل عَلَى الشَّهَادَاتِ التَّالِيَةِ:

1ـ شَهَادَةِ الأَهْلِيَّةِ للغُرَبَاءِ 1927 م.

2ـ شَهَادَةِ العَالِيَةِ للغُرَبَاءِ 1929 م.

3ـ شَهَادَةِ الاسْتِمَاعِ 1930 م.

وَهَذِهِ الشَّهَادَاتُ في مُجْمَلِهَا تُعَادِلُ حَالِيَّاً شَهَادَةَ الدكتوراة في عُلُومِ الفِقْهِ وَأُصُولِ الفِقْهِ وَمُصْطَلَحِ الحَدِيثِ وَالتَّوْحِيدِ وَالبَلَاغَةِ وَالنَّحْوِ وَالصَّرْفِ.

طِيلَةُ هَذِهِ الفَتْرَةِ كَانَ الشَّيْخُ طَالِبَاً في الشِّتَاءِ دَاعِيَةً في الصَّيْفِ، تِلْمِيذَاً في النَّهَارِ دَاعِيَةً في اللَّيْلِ، وَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ الكَثِيرُ مِنَ الأَقْبَاطِ المِصْرِيِّينَ، وَكَانَتْ لَهُ صَوْلَةٌ وَجَوْلَةٌ في مِصْرَ، فَلَا يَكَادُ يَمُرُّ أُسْبُوعٌ إِلَّا وَالشَّيْخُ لَهُ نَدْوَةٌ أَو مُحَاضَرَةٌ أَو أُمْسِيَةٌ ثَقَافِيَّةٌ في مَكَانٍ عَامِّ، وَقَدْ كَانَ لَهُ حُضُورٌ هَامٌّ وَمُشَارَكَاتٌ فَعَّالَةٌ في كُلِّ أَزَمَاتِ العَالَمِ العَرَبِيِّ وَالإِسْلَامِيِّ، وَبَعْدَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً أَمْضَاهَا في مِصْرَ قَرَّرَ الشَّيْخُ جَمِيل العَوْدَةَ إلى حَلَبَ بَعْدَ أَنْ أَدَّى فَريضَةَ الحَجِّ، فَعَرَّجَ عَلَى فِلَسْطِينَ وَلبنان وَأَلْقَى بِهِمَا العَدِيدَ مِنَ المُحَاضَرَاتِ، وَمِنْ ثُمَّ وَصَلَ إلى حَلَبَ عام 1936 هـ، وَعُيِّنَ أُسْتَاذَاً للدَّيَانَةِ الإِسْلَامِيَّةِ وَاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ في ثَانَوِيَّاتِ حَلَبِ وَدَارِ المُعَلِّمِينَ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ، بَلِ انْتَهَجَ خُطَّةً اعْتَمَدَتْ عَلَى عِدَّةِ مَحَاوِرٍ:

1ـ كَانَ يَزُورُ كَافَّةَ مَسَاجِدِ حَلَبَ وَجَوَامِعِهَا وَيُقِيمُ الدُّرُوسَ فِيهَا مَعَ خُطْبَةِ الجُمُعَةِ.

2ـ كَانَ يَزُورُ أَرْيَافَ حَلَبَ وإدلب وحماة واللاذقية، مَعَ إِلْقَاءِ المَوَاعِظِ وَالدُّرُوسِ فِيهَا.

3ـ كَانَ يَزُورُ السُّجُونَ وَالإِصْلَاحِيَّاتِ، وَيُعَالِجُ الذينَ زَلَّتْ بِهِمُ القَدَمُ.

4ـ كَانَ للشَّيْخِ جَمِيل حُضُورٌ مُمَيَّزٌ في الجَامِعِ الأُمَوِيِّ الكَبِيرِ، خُصُوصَاً في رَمَضانَ، حَيْثُ كَانَ لَهُ دَرْسٌ بَعْدَ التَّرَاوِيحِ وَالفَجْرِ، بَقِيَ عَلَى ذَلِكَ حُسْبَةً إلى سَنَةِ وَفَاتِهِ 1968م.

كَانَ الشَّيْخُ جَمِيل كَمَا قَالَ عَنْهُ تِلْمِيذُه الشَّيْخُ فَوزي فَيْضُ اللهِ: مَدْرَسَةٌ سَيَّارَةٌ، أَنَّى تَوَجَّهَ يَنْصَحُ وَيُوَجِّهُ بِالتي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا مَرَّ بِالأَسْوَاقِ نَبَّهَ وَنَصَحَ، وَلَكِنَّهُ إِنِ ارْتَقَى وَاسِطَةَ نَقْلٍ عَام كَانَ لَهُ أُسْلُوبٌ عَجِيبٌ في إرْشَادِ النَّاسِ وَنُصْحِهِمْ بِمَوْعِظَةٍ رَقِيقَةٍ تَتَنَاسَبُ مَعَ المَوْقِفِ الذي هُوَ فِيهِ.

وَمَا حَضَرَ عَزَاءً إِلَّا حَوَّلَهُ إلى جَلْسَةِ رَاحَةٍ بَعْدَ حُزْنٍ، وَتَفَاؤُلٍ بَعْدَ مُصِيبَةٍ.

للشَّيْخِ جَمِيل طَرِيقَةٌ مُحَبَّبَةٌ للنَّاسِ في دَعْوَتِهِمْ إلى اللهِ، فَمَا كَانَ يُفَارِقُ اللُّطْفَ في خِطَابِهِ، لِذَلِكَ كَانَ النَّاسُ يَتَلَهَّفُونَ لِسَمَاعِ مَوَاعِظِهِ حَيْثُ الْتَقَوْا بِهِ.

مَوَاقِفُ مُضِيئَةٌ لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ جَمِيل رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

1ـ مَرَّةً حَضَرَ حَفْلَةَ زِفَافٍ في إِحْدَى القُرَى، وَتَفَاجَأَ مِنْ أَنَّ الرِّجَالَ يَرْقُصُونَ مَعَ النِّسَاءِ، فَمَا كَانَ مِنْهُ إِلَّا أَنْ دَعَا الرِّجَالَ إِلَيْهِ وَأَشَارَ إلى النِّسَاءِ أَنِ ارْقُصُوا بَعِيدَاً عَنِ الرِّجَالِ، ثُمَّ أَنْشَدَ لَهُمْ لِيُشَارِكَهُمْ فَرْحَتَهُمْ وَدَعَا لَهُمْ بِخَيْرٍ.

2ـ وَمَرَّةً صَعِدَ الشَّيْخُ جَمِيل وَاسِطَةَ نَقْلٍ عَامٍّ، وَجَلَسَ بِجِوَارِهِ رَجُلٌ وَهُوَ يُدَخِّنُ، وَكَانَ الشَّيْخُ يَكْرَهُ الدُّخَانَ وَرَائِحَتَهُ، فَمَا كَانَ مِنْهُ إِلَّا أَنْ قَالَ لَهُ يُدَاعِبُهُ بِقَوْلِهِ: يَا أَخِي، تَعَالَ نَعْقِدُ بَيْنَنَا اتِّفَاقَاً، أَنْتَ تُدَخِّنُ وَأَنَا أَسْعُلُ وَأَتَضَرَّرُ، فَتَنَبَّهَ الرَّجُلُ وَسَارَعَ لِإِطْفَاءِ سِيجَارَتِهِ وَلَعَلَّهَا كَانَتِ الأَخِيرَةَ.

3ـ كَانَ يُحِيطُ بِمَنْزِلِ الشَّيْخِ عَدَدٌ مِنَ الحَوَانِيتِ يَعُودُ بَعْضُهَا للأَرْمَنِ، فَكَانَ الشَّيْخُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ في رَوَاحِهِ وَعَوْدَتِهِ، وَكَانَ كُلَّمَا قَدِمَ المَسْجِدَ سَارَعُوا للسَّلَامِ عَلَيْهِ وَطَلَبِ الدُّعَاءِ مِنْهُ، فَيَدْعُو لَهُمْ بَالهِدَايَةِ وَالسَّدَادِ.

4ـ كَانَ الشَّيْخُ جَمِيل إِذَا الْتَقَى بِشَابٍّ يَخْتَتِمُ بِخَاتَمٍ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ لَهُ: مَا اسْمُكَ؟ يَقُولُ لَهُ: أَنَا مُحَمَّد؛ فَيَقُولُ لَهُ الشَّيخُ: لَا بَلْ أَنْتَ حَمِيدَة، لِأَنَّ الأُنْثَى هِيَ التي تَتَزَيَّنُ بِالذَّهَبِ، عِنْدَهَا يَخْجَلُ الشَّابُّ وَيُعَاهِدُ الشَّيْخَ عَلَى أَن لَا يَلْبَسَ الذَّهَبَ مَرَّةً ثَانِيَةً.

5ـ كَانَ الشَّيْخُ في إِحْدَى المَنَاطِقِ، وَبَعْدَ أَنِ اسْتَيْقَظَ لِأَدَاءِ صَلَاةِ التَّهَجُّدِ، لَاحَظَ شَابَّاً جَالِسَاً بَيْنَ النَّائِمِينَ في المَضَافَةِ المُعَدَّةِ لِاسْتِقْبَالِ الضُّيُوفِ، فَارْتَابَ الشَّيْخُ مِنْ ذَلِكَ الشَّابِّ، وَإِذْ بِأَحَدِ أَبْنَاءِ هَذِهِ المَضَافَةِ يَصْرُخُ بِأَنَّ أَحَدَ الضُّيُوفِ قَدْ سُرِقَ، فَتَوَجَّهَ الشَّيْخُ إلى ذَلِكَ الشَّابِّ الذي كَانَ جَالِسَاً بَيْنَ النَّائِمِينَ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ السَّارِقُ، وَإِذَا مَا أَعَدْتَ المَسْرُوقَاتِ التي سَرَقْتَهَا فَسَأَسْتُرُكَ، ثُمَّ تُغَادِرُ المَضَافَةَ حَالَاً، فَاقْتَنَعَ الشَّابُّ بِذَلِكَ وَأَعَادَ المَسْرُوقَاتِ، وَسَتَرَهُ الشَّيخُ وَكَفَاهُ مِنْ فِتْنَةٍ كَانَتْ مُتَوَقَّعَةً.

وَفِي الأُسْبُوعِ المُقْبِلِ نُتَمِّمُ بِعَوْنِ اللهِ تعالى تَرْجَمَةَ الشَّيْخِ جَمِيل العَقَّاد، ومَا أَكْرَمَهُ اللهُ مِنْ مَوَاقِفَ مُضِيئَةٍ.

رَحِمَ اللهُ تعالى الشَّيْخَ جَمِيل العَقَّاد وَسَائِرَ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ؛ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

تاريخ الكلمة:

الخميس: 10/ محرم /1440هـ، الموافق: 20/ أيلول / 2018م