30ـ ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ﴾

30ـ ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ﴾

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَتَعَلَّمُ مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ أَنَّ العَاقِبَةَ للمُتَّقِينَ، وَالتَّقِيُّ الصَّابِرُ هُوَ الرَّابِحُ، وَهُوَ مَرْفُوعُ الرَّأْسِ عَزِيزٌ، كَمَا قُلْنَا في اللِّقَاءِ السَّابِقِ، انْتَهَتْ مِحْنَةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، وَجَاءَتْ مِحْنَةُ إِخْوَتِهِ، وَكَمْ هُوَ الفَارِقُ كَبِيرٌ بَيْنَ المِحْنَتَيْنِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ صَدَقَ الحَقُّ جَلَّ جَلَالُهُ إِذْ قَالَ لِسَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ: ﴿لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. لَقَدْ رَمَوْهُ بِالجُبِّ لِيَتَخَلَّصُوا مِنْهُ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى عَرْشِ مِصْرَ، وَوَقَفُوا بَيْنَ يَدَيْهِ فُقَرَاءَ مُحْتَاجِينَ، فَقَابَلَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ الإِسَاءَةَ بِالإِحْسَانِ، وَلِمَاذَا لَا يُقَابِلُ ذَلِكَ بِذَلِكَ وَقَدْ أَكْرَمَهُ اللهُ تعالى بِالمِنْحَةِ بَعْدَ المِحْنَةِ؟

﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ اللهُ تعالى مُبَيِّنَاً هَذَا المَوْقِفَ العَظِيمَ: ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ﴾. في هَذَا الخِطَابِ اسْتَعْمَلَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ أُسْلُوبَيْنِ في التَّعَامُلِ مَعَ إِخْوَتِهِ اللِّينَ أَوَّلَاً، فَقَالَ: ﴿أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾؟ أَيْ: خَيْرُ الذينَ يُكْرِمُونَ الضُّيُوفَ، وَيُنْزِلُونَهُمْ في أَحْسَنِ المَنَازِلِ.

ثُمَّ الشِّدَّةُ وَالقَسْوَةُ: ﴿فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ﴾. هَدَّدَهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ إِذَا لَمْ يُحْضِرُوا أَخَاهُ فَلَات كَيْلَ لَهُمْ.

وَهَذَا دَرْسٌ عَمَلِيٌّ يَأْخُذُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا، أُسْلُوبُ اللِّينِ وَاللُّطْفُ لَهُ مَكَانٌ، وَالشِّدَّةُ وَالقَسْوَةُ لَهَا مَكَانٌ، وَالحَكِيمُ هُوَ الذي يَجْعَلُ كُلَّ شَيْءٍ في مَكَانِهِ، وَهَذَا مَا أَشَارَ اللهُ تعالى إِلَيْهِ في قَوْلِهِ: ﴿يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنَاً * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابَاً نُكْرَاً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرَاً﴾.

سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ قَالَ لِإِخْوَتِهِ: ﴿وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾. وَلَمْ يَقُلْ: خَيْرُ الكَيَّالِينَ، لِأَنَّهَا مَهَمَّةُ الغِلْمَانِ وَالعُمَّالِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَنَتَعَلَّمُ مِنْ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ في هَذَا المَوْقِفِ، أَنْ نَقُومَ بِالوَاجِبِ الذي عَلَيْنَا أَوَّلَاً، ثُمَّ نُطَالِبَ بِالحَقِّ الذي لَنَا، لِأَنَّ الوَاجِبَ الذي عَلَيْنَا هُوَ حَقٌّ للآخَرِينَ، فَسَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ قَامَ بِالوَاجِبِ الذي عَلَيْهِ نَحْوَ إِخْوَتِهِ بِإِكْرَامِهِمْ فَجَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ، هَذَا أَوَّلَاً، ثُمَّ طَالَبَهُمْ بِحَقِّهِ، وَهَذَا شَأْنُ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ الذي يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِ الرَّحْمَنِ، رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ مَا طَلَبَ مِنْ عِبَادِهِ العِبَادَةَ إِلَّا بَعْدَ العَطَاءِ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾. قَبْلَ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: لِمَاذَا؟ قَالَ تعالى مُبَيِّنَاً نِعَمَهُ عَلَى خَلْقِهِ الذينَ أُمِرُوا بِعِبَادَتِهِ، فَقَالَ: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشَاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادَاً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.

فَقَبْلَ التَّكْلِيفِ عَطَاءٌ، قَالَ تعالى: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ﴾. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَاذَا العِبَادَةُ؟ يَأْتِي الجَوَابُ: ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾.

فَسَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ قَابَلَ إِسَاءَةَ إِخْوَتِهِ بِالإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَكَأَنَّهُ يُعَلِّمُنَا لَا تَعْصِ اللهَ تعالى فِيمَنْ عَصَى اللهَ فِيكَ، يُعَلِّمُنَا القِيَامَ بِالوَاجِبِ الذي عَلَيْنَا تُجَاهَ الآخَرِينَ، ثُمَّ نُطَالِبَهُمْ بِأُسْلُوبٍ لَطِيفٍ، قَالَ تعالى عَنْ هَذَا المَوْقِفِ: ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ﴾.

قَالُوا عِنْدَ ذَلِكَ لِسَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ: ﴿قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ﴾. يَعْنَي: سَنَتَلَطَّفُ بِأَحْسَنِ القَوْلِ مَعَ أَبِيهِ وَنُحَاوِلُ جَاهِدِينَ لِإِحْضَارِهِ، وَالمُلَاحَظُ في قَوْلِهِمْ: ﴿سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ﴾. لَمْ يَقُولُوا: أَبَانَا، لِأَنَّ العَلَاقَةَ الوُدِّيَّةَ بَيْنَهُمْ مَجْرُوحَةٌ بِسَبَبِ مَا فَعَلُوا بِسَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ.

نَعَمْ لَقَدْ قَالُوا: ﴿سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ﴾. لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الأَمْرَ لَيْسَ سَهْلَاً، لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مَاضِيهِمْ مِنْ قَبْلُ مَعَ أَخِيهِمْ يُوسُفَ.

وَالمُرَاوَدَةُ تَعْنِي أَخْذَاً وَرَدَّاً، وَتَحْتَاجُ إلى احْتِيَالٍ، ثُمَّ أَكَّدُوا قَوْلَهُمْ: ﴿وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ﴾. أَيْ: سَيَبْذُلُونَ كُلَّ جُهُودِهِمْ، كَيْ يَقْبَلَ وَالِدُهُمْ إِرْسَالَ أَخِيهِمْ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا مَطْلَبٌ صَعْبُ المَنَالِ، عَسِيرُ التَّحْقِيقِ.

وَالسُّؤَالُ الذي يَطْرَحُ نَفْسَهُ في هَذَا المَوْقِفِ: لِمَاذَا طَلَبَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ أَخَاهُ، وَلَمْ يَطْلُبْ أَبَاهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِأَنَّ طَلَبَ أَخِيهِ سَوْفَ يُدْخِلُ الحُزْنَ عَلَى أَبِيهِ؟

الجَوَابُ وَاللهُ تعالى أَعْلَمُ: سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ يَعْمَلُ بِأَمْرٍ مِنَ اللهِ تعالى، وَلَيْسَ مِنْ نَفْسِهِ وَذَاتِهِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الابْتِلَاءِ لِسَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلِيَعْظُمَ أَجْرُهُ وَثَوَابُهُ، وَلِتَتَضَاعَفَ مَسَرَّتُهُ بِرُجُوعِ وَلَدَيْهِ، وَجَمْعِ شَمْلِ الأُسْرَةِ، وَتَحْقِيقِ الرُّؤْيَا التي رَآهَا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ مِنْ قَبْلُ.

﴿وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: ثُمَّ تَوَجَّهَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ لِغِلْمَانِهِ قَائِلَاً: ﴿اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾. لَقَدْ عَرَفَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ أَنَّ إِخْوَتَهُ فَضْلَاً عَنْ أَبِيهِمْ لَا يَسْتَحِلُّونَ أَكْلَ مَالِ الغَيْرِ بِغَيْرِ حَقِّهِ، فَجَعَلَ الدَّرَاهِمَ وَقِيمَةَ المِيرَةِ في رِحَالِهِمْ، لِيَرْجِعُوا بِهَا، وَمَعَهُمْ أَخُوهُمْ الذي يُرِيدُ إِحْضَارَهُ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ لَا يَحْرِمَنَا حُسْنَ التَّصَرُّفِ مَعَ الآخَرِينَ وَلَو أَسَاءُوا. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 25/ جمادى الأولى /1441هـ، الموافق: 20/ كانون الثاني / 2020م