43ـ وصية أبي الدرداء لأهل دمشق

43ـ وصية أبي الدرداء لأهل دمشق

يا أيها الناس أما تستحيون

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: طُولُ الأَمَلِ دَاءٌ عُضَالٌ، وَمَرَضٌ مُزْمِنٌ، وَمَتَى تَمَكَّنَ مِنَ القَلْبِ فَسَدَ مِزَاجَهُ، وَصَعُبَ عِلَاجُهُ، وَلَمْ يُفَارِقْهُ دَاءٌ، وَلَا نَجَعَ فِيهِ دَوَاءٌ، بَلْ أَعْيَا الأَطِبَّاءَ، وَيَئِسَ مِنْ بُرْئِهِ الحُكَمَاءُ وَالعُلَمَاءُ، وَقَدْ ذَمَّ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ العَظِيمِ قَوْمَاً، فَقَالَ في حَقِّهِمْ: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُون﴾.

وروى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ خَطَّ خَطَّاً مُرَبَّعَاً، وَخَطَّ خَطَّاً وَسَطَ الْخَطِّ الْمُرَبَّعِ، وَخُطُوطَاً إِلَى جَنْبِ الْخَطِّ الَّذِي وَسَطَ الْخَطِّ الْمُرَبَّعِ، وَخَطٌّ خَارِجٌ مِنَ الْخَطِّ الْمُرَبَّعِ، قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذَا؟».

قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: «هَذَا الْإِنْسَانُ، الْخَطُّ الْأَوْسَطُ، وَهَذِهِ الْخُطُوطُ الَّتِي إِلَى جَنْبِهِ: الْأَعْرَاضُ تَنْهَشُهُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، إِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا، أَصَابَهُ هَذَا، وَالْخَطُّ الْمُرَبَّعُ: الْأَجَلُ الْمُحِيطُ بِهِ، وَالْخَطُّ الْخَارِجُ: الْأَمَلُ».

وروى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ أُمِّ الْوَلِيدِ بِنْتِ عُمَرَ قَالَتْ: اطَّلَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ عَشِيَّةٍ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَمَا تَسْتَحْيُونَ؟».

قَالُوا: مِمَّ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «تَجْمَعُونَ مَا لَا تَأْكُلُونَ، وَتَبْنُونَ مَا لَا تَعْمُرُونَ، وَتَأْمُلُونَ مَا لَا تُدْرِكُونَ، أَلَا تَسْتَحْيُونَ ذَلِكَ؟».

وَيَقُولُ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ اليَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ، وَغَدَاً حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ. رواه الإمام البخاري.

وَيَقُولُ سَيِّدُنَا سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ثَلَاثٌ أَعْجَبَتْنِي حَتَّى أَضْحَكَتْنِي: مُؤَمِّلُ الدُّنْيَا، وَالْمَوْتُ يَطْلُبُهُ، وَغَافِلٌ وَلَيْسَ بِمْغَفُولٍ عَنْهُ، وَضَاحِكٌ لَا يَدْرِي أَسَاخِطٌ عَلَيْهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَمْ رَاضٍ، وَثَلَاثٌ أَحْزَنَتْنِي حَتَّى أَبْكَتْنِي: فِرَاقُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَحِزْبِهِ ـ أَوْ قَالَ: فِرَاقُ مُحَمَّدٍ وَالْأَحِبَّةَ ـ وَهَوْلُ الْمَطْلَعِ، وَالْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَا أَدْرِي إِلَى جَنَّةٍ يُؤْمَرُ بِي أَوْ إِلَى نَارٍ. رواه البيهقي.

وَصِيَّةُ أَبِي الدَّرْدَاءِ لِأَهْلِ دِمَشْقَ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: تَحَدَّثْنَا عَنْ سَيِّدِنَا أَبِي الدَّرْدَاءِ في الدَّرْسِ المَاضِي، وَعَرَفْنَا أَنَّهُ زَهِدَ في الدُّنْيَا، وَأَقْبَلَ عَلَى اسْتِغْلَالِ أَنْفَاسِ عُمُرِهِ مِنْ أَجْلِ الآخِرَةِ، وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَاهَا.

جَاءَ في مَوَارِدِ الظَّمْآنِ: وَفِي خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَرَادَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنْ يَلِيَ لَهُ عَمَلَاً (يَتَوَلَّى وِلَايَةً) فِي الشَّام فَأَبَى فَأَصَرَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِذَا رَضِيتَ مِنِّي أَنْ أَذْهَبَ إِلَيْهِمْ لِأُعَلِّمَهُمْ كِتَابَ رَبِّهِمْ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِمْ وَأُصَلِّي بِهِمْ ذَهَبْتُ.

فَرَضِيَ منْهُ عُمَرُ بِذَلِكَ، وَمَضَى هُوَ إِلى دِمَشْقَ، فَلَمَّا بَلَغَهَا وَجَدَ النَّاسَ قَدْ أُولِعُوا بِالتَّرَفِ وَانْغَمَسُوا فِي النَّعِيمِ فَهَالَهُ ذَلِكَ وَدَعَا النَّاسَ إِلى الْمَسْجِدِ فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ فَوَقَفَ فِيهِمْ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ دِمَشْقَ، أَنْتُمْ الإِخْوَانُ فِي الدِّينِ، وَالْجِيرَانُ فِي الدَّارِ، وَالأَنْصَارُ عَلَى الأَعْدَاءِ.

يَا أَهْلَ دِمَشْقَ، مَا الذِي يَمْنَعُكُمْ مِنْ مَوَدَّتِي وَاسْتِجَابَةٍ لِنَصِيحَتِي وَأَنَا لَا أَبْتَغِي مِنْكُمْ شَيْئَاً، فَنَصِيحَتِي لَكُمْ وَمَؤُنَتِي (نَفَقَتِي) عَلَى غَيْرِكُمْ.

مَالِي أَرَى عُلَمَاءَكُمْ يَذْهَبُونَ (يَمُوتُونَ) وَجُهَّالَكُمْ لَا يَتَعَلَّمُونَ!

وَأَرَاكُمْ قَدْ أَقْبَلْتُمْ عَلَى مَا تَكَفَّلَ اللهُ لَكُمْ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَرَكْتُمْ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ، مَالِي أَرَاكُمْ تَجْمَعُونَ مَا لَا تَأْكُلُونَ، وَتُبْنُونَ مَا لَا تَسْكُنُونَ، وَتُؤْمِّلُونَ مَا لَا تَبْلُغُونَ.

لَقَدْ جَمَعَتِ الأَقْوَامُ الَّتِي قَبْلَكُمْ وَأَمَّلَتْ، فَمَا هُوَ إِلَّا قَلِيلٌ حَتَّى أَصْبَحَ جَمْعُهُمْ بُورَاً، وَأَمْلُهُمْ غُرُورَاً، وَبُيُوتُهُمْ قُبُورَاً.

هَذِهِ عَادٌ يَا أَهْلَ دِمَشْقَ، قَدْ مَلَأَتِ الأَرْضَ مَالَاً وَوَلَدَاً، فَمَنْ يَشْتَرِي مِنِّي تِركةَ عَادٍ بِدِرْهَمَيْنِ؟!

فَجَعَلَ النَّاسُ يَبْكُونَ، حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهم مِنْ خَارِجِ الْمَسْجِدِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَكَذَا رَبَّى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، وَهَكَذَا رًبَّى أَصْحَابُهُ النَّاسَ، هَذِهِ الدُّنْيَا ـ وَاللهِ لَا شَيْءَ ـ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرَاً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» رواه الترمذي عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

هَذِهِ الدُّنْيَا لَا شَيْءَ، لِذَلِكَ حَذَّرَنَا اللهُ تعالى مِنْهَا فَقَالَ: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾. هِيَ خَيْرٌ لِمَنْ فَقِهَ حَقِيقَةَ الدُّنْيَا.

لَقَدْ عَابَ اللهُ تعالى أَقْوَامَاً فَقَالَ في حَقِّهِمْ: ﴿وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ غَرَّنَا طُولُ الأَمَلِ، فَأَعْرَضْنَا عَنِ الحَيَاةِ الحَقِيقِيَّةِ البَاقِيَةِ، وَتَنَافَسْنَا عَلَى الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ، التي في حَقِيقَتِهَا لَا شَيْءَ، روى الإمام مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِالسُّوقِ، دَاخِلَاً مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ، وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ (جَانِبَهُ) فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ (أَيْ صَغِيرُ الأُذُنَيْنِ) فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟».

فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟

قَالَ: «أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟».

قَالُوا: وَاللهِ لَوْ كَانَ حَيَّاً، كَانَ عَيْبَاً فِيهِ، لِأَنَّهُ أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟

فَقَالَ: «فَوَاللهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ، مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ».

اللَّهُمَّ أَخْرِجْ مِنْ قُلُوبِنَا حُبَّ الدُّنْيَا، وَاجْعَلْ هَمَّنَا الآخِرَةَ. آمين.

**   **   **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 5/ جمادى الآخرة /1441هـ، الموافق: 30/ كانون الثاني / 2020م