1ـ كِتَابُ وُقُوتِ الصَّلَاةِ

بسم الله الرحمن الرحيم

صَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً

1ـ كِتَابُ وُقُوتِ الصَّلَاةِ

1ـ وُقُوتُ الصَّلَاةِ

بَدَأَ المُصَنِّفُ سَيِّدِي وَمَوْلَايَ الإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى كِتَابَهُ بِالبَسْمَلَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ كَلَامٍ، أَوْ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُفْتَحُ بِذِكْرِ اللهِ، فَهُوَ أَبْتَرُ ـ أَوْ قَالَ: أَقْطَعُ ـ» رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ ثُمَّ الآلِ، لِأَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَرَعَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ إِلْحَاقاً بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ» رواه الشيخان عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَلَمْ يَذْكُرِ الإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى الصَّحْبَ، مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الصَّحْبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ تَجُوزُ تَبَعاً للصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وَبَعْضُ الفُقَهَاءِ أَجَازَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمُ اسْتِقْلَالاً، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رواه الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ»، فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى».

وَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ قَالُوا: لَا يَجُوزُ إِفْرَادُ غَيْرِ الأَنْبِيَاءِ بِالصَّلَاةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ شِعَارٌ للأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

فَلَا يُلْحَقُ بِهِمْ غَيْرُهُمْ، فَلَا يُقَالُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَو: قَالَ عَلِيٌّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ المَعْنَى صَحِيحَاً، كَمَا لَا يُقَالُ: مُحَمَّدٌ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَزِيزاً جَلِيلاً، لِأَنَّ هَذَا مِنْ شِعَارِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ في عَدَمِ الجَوَازِ، هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ التَّحْرِيمِ، أَمِ الكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ؟

الصَّحِيحُ وَالذي عَلَيْهِ الأَكْثَرُونَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً تَنْزِيهِيَّةً.

وَأَمَّا إِلْحَاقُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِالآلِ تَبَعاً بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا جَائِزٌ بِالإِجْمَاعِ. هذا، والله تعالى أعلم.

قَوْلُهُ: وُقُوتُ الصَّلَاةِ، وَمَوَاقِيتُ الصَّلَاةِ، وَأَوْقَاتُ الصَّلَاةِ، كُلُّهَا بِمَعْنىً وَاحِدٍ، يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً﴾ [النساء: 103] يَعْنِي: مُؤَقَّتاً، وَقَّتَهُ اللهُ تعالى عَلَيْنَا بِأَوْقَاتٍ مَحْدُودَةٍ، لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا عَنْ أَوْقَاتِهَا.

وَقَدْ قَدَّمَ الإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى بَابَ الصَّلَاةِ عَلَى سَائِرِ أَبْوَابِ الكِتَابِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ أُمُّ العِبَادَاتِ، وَالتي بِصَلَاحِهَا صَلَاحُ العَمَلِ، وَبِفَسَادِهَا فَسَادُ العَمَلِ، روى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، فَإِنِ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ، قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنَ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ».

وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ لَهَا أَثَرٌ كَبِيرٌ في سُلُوكِ المُصَلِّي، حَيْثُ تَنْهَاهُ عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45].

وَلِأَنَّهَا الفَرِيضَةُ الوَحِيدَةُ التي فَرَضَهَا اللهُ تعالى في لَيْلَةِ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ، وَلَمْ تُفْرَضْ في الأَرْضِ.

وَذَكَرَ الإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى بِدَايَةً وُقُوتَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الأَصْلَ في وُجُوبِ الصَّلَاةِ دُخُولُ الوَقْتِ، فَإِذَا دَخَلَ الوَقْتُ وَجَبَتِ الصَّلَاةُ، وَإِذَا وَجَبَتِ الصَّلَاةُ وَجَبَ الوُضُوءُ.

الحَدِيثُ الأَوَّلُ

أَقُولُ وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ، بِالسَّنَدِ المُتَّصِلِ لِشَيْخِنَا الدُّكْتُورِ نُورِ الدِّينِ العتر حَفِظَهُ اللهُ تعالى وَعَافَاهُ، وَنَفَعَ بِهِ المُسْلِمِينَ، بِسَنَدِهِ المُتَّصِلِ إلى عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الحَقِّ الخَزْرَجِيِّ القُرْطُبِيِّ، قَالَ:

حَدَّثَنَا الْفَقِيهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ فَرَجٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ فِي مَسْجِدِهِ بِقُرْطُبَةَ، فِي صَدْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِ مِئَةٍ، قَالَ:

حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ، يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغِيثٍ، قَاضِي الْجَمَاعَةِ بقُرْطُبَةَ، الْمَعْرُوفُ بابْنِ الصَّفَّارِ، رَحِمَهُ اللهُ، قَالَ:

حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى، يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي عِيسَى، عَنْ عَمِّ أَبِيهِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ يَحْيَى، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْماً، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فَأَخْبَرَهُ، أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْماً، وَهُوَ بِالْكُوفَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: مَا هذَا يَا مُغِيرَةُ؟ أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ فَصَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

ثُمَّ صَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

ثُمَّ صَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

ثُمَّ صَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

ثُمَّ صَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: بِهذَا أُمِرْتُ؟

فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: اعْلَمْ مَا تُحَدِّثُ بِهِ يَا عُرْوَةُ، أَوَ إِنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الَّذِي أَقَامَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَقْتَ الصَّلَاةِ؟

قَالَ عُرْوَةُ: كَذلِكَ كَانَ بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ.

الشَّرْحُ:

قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بِهذَا أُمِرْتُ»:

ضُبِطَتْ بِضَمِّ التَّاءِ وَبِفَتْحِهَا، فَإِذَا كَانَتْ بِالضَّمِّ يَكُونُ مَعْنَاهَا: هَذَا الذي أُمِرْتُ بِتَبْلِيغِهِ لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَو بِمَعْنَى: هَذَا الذي أُمِرْتُ أَنْ أُصَلِّيَ بِكَ.

وَإِذَا كَانَتْ بِالفَتْحِ، يَكُونُ مَعْنَاهَا هَذَا الذي أُمِرْتَ بِهِ أَنْ تُصَلِّيَهُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ يَا رَسُولَ اللهِ، أَو بِمَعْنَى: هَذَا الذي أُمِرْتَ بِهِ مِنَ الصَّلَوَاتِ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ مُجْمَلاً، وَهَذَا تَفْسِيرُهُ مُفَصَّلاً.

تَأْخِيرُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ صَلَاةَ العَصْرِ:

سَيِّدُنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ أَحَدُ الخُلُفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، أَخَّرَ صَلَاةَ الـعَصْرِ يَوْماً حَتَّى خَرَجَ الوَقْتُ المُسْتَحَبُّ، لَا أَنَّهُ أَخَّرَهَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَلَا يَلِيقُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ أَنَّهُ أَخَّرَهَا عَنْ وَقْتِهَا.

فَدَخَلَ عَلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ المُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْماً ـ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَدْرَةِ التَّأْخِيرِ ـ وَكَانَ بِالكُوفَةِ، وَكَانَ المُغِيرَةُ إِذْ ذَاكَ أَمِيراً عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِ سَيِّدِنَا مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو البَدْرِيُّ الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: مَا هَذَا التَّأْخِيرُ يَا مُغِيرَةُ؟ وَفي هَذَا إِنْكَارٌ عَلَى الأُمَرَاءِ إِذَا خَالَفُوا السُّنَّةَ.

قَوْلُهُ: (يَا مُغِيرَةُ، أَلَيْسَ) الأَفْصَحُ أَلَسْتَ، لِأَنَّهُ يُخَاطِبُ حَاضِراً، لَكِنَّ الرِّوَايَةَ (أَلَيْسَ) بِصِيغَةِ مُخَاطَبَةِ الغَائِبِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ.

فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ: اعْلَمْ مَا تُحَدِّثُ؟ أَرَادَ أَنْ يَسْتَثْبِتَ مِنَ الحَدِيثِ، وَكَأَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ كَانَ يَرَى أَنَّهُ لَا مُفَاضَلَةَ بَيْنَ أَجْزَاءِ الوَقْتِ الوَاحِدِ، وَكَذَلِكَ يُحْمَلُ عَمَلُ المُغِيرَةِ ـ وَاللهُ تعالى أَعْلَمُ ـ.

ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا عُرْوَةُ، أَوَ إِنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الَّذِي أَقَامَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَقْتَ الصَّلَاةِ؟ يَعْنِي: أَوَ عَلِمْتَ بِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الذي أَقَامَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ؟ وَظَاهِرُ الإِنْكَارِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ المُبَيِّنُ لَهُ ذَلِكَ بِالفِعْلِ، فَلِذَلِكَ اسْتَثْبَتَ فِيهِ.

قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: كَذلِكَ كَانَ بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ.

وَفي رِوَايَةٍ للشَّيْخَيْنِ، فَقَالَ عُرْوَةُ: سَمِعْتُ بَشِيرَ بْنَ أَبِي مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «نَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَمَّنِي، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ» يَحْسُبُ بِأَصَابِعِهِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ.

يُسْتَفَادُ مِنَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:

اسْتِحبَابُ الصَّلَاةِ في أَوَّلِ وَقْتِهَا.

الحَدِيثُ الثَّانِي

قَالَ عُرْوَةُ ـ هَذَا الحَدِيثُ مُتَّصِلٌ بِالسَّنَدِ المُتَقَدِّمِ ـ: وَلَقَدْ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ، زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ.

الشَّرْحُ:

قَوْلُهَا: (قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ) يَعْنِي: قَبْلَ أَنْ تَرْتَفِعَ وَتَعْلُو، وَالمُرَادُ: الفَيْءُ في حُجْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ يَعْلُوَ عَلَى البُيُوتِ، فَكَنَّتْ بِالشَّمْسِ عَنِ الفَيْءِ.

وروى الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي العَصْرَ، وَالشَّمْسُ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ حُجْرَتِهَا.

وروى الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ فِي حُجْرَتِي، لَمْ يَفِئِ الْفَيْءُ بَعْدُ؛ وقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَظْهَرِ الْفَيْءُ بَعْدُ.

يُسْتَفَادُ مِنَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:

اسْتِحْبَابُ تَعْجِيلِ صَلَاةِ العَصْرِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الفُقَهَاءِ، روى الإمام البخاري عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الـعَصْرَ، فَنَنْحَرُ جَزُوراً، فَتُقْسَمُ عَشْرَ قِسَمٍ، فَنَأْكُلُ لَحْماً نَضِيجاً قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ.

 

الحَدِيثُ الثَّالِثُ

قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ عَنْ وَقْتِ صَلَاةِ الصُّبْحِ.

قَالَ: فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ.

ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ مِنَ الْغَدِ بَعْدَ أَنْ أَسْفَرَ.

ثُمَّ قَالَ: «أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟».

قَالَ: هَا أَنَذَا يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ».

الشَّرْحُ:

كَأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: إلى أَيِّ وَقْتٍ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا؟

فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يُجِبْهُ قَوْلاً، حَتَّى أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الجَوَابُ بِالفِعْلِ، لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنَ الخَبَرِ، وَلَمْ يَخَفِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِهَايَةِ أَجَلِهِ قَبْلَ أَنْ يُعَلِّمَهُ الجَوَابَ، لِأَنَّ اللهَ تعالى نَبَّأَهُ أَنَّهُ لَا يَقْبِضُهُ حَتَّى يَكْمُلَ الدِّينُ.

فَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ في اليَوْمِ الأَوَّلِ بَعْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ مُبَاشَرَةً، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ في اليَوْمِ التَّالِي بَعْدَ أَنْ أَسْفَرَ (يَعْنِي انْكَشَفَ وَأَضَاءَ).

وَفي رِوَايَةٍ: فَصَلَّى أَمَامَ الشَّمْسِ (أَيْ: قُدَّامَهَا، بِحَيْثُ طَلَعَتْ بَعْدَ سَلَامِهِ مِنْهَا) رواه الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

ثُمَّ سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في اليَوْمِ الثَّانِي بَعْدَ صَلَاتِهِ في وَقْتِ الإِسْفَارِ: «أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ»؟

قَالَ: هَا أَنَذَا يَا رَسُولَ اللهِ.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ».

وَفي رِوَايَةٍ للطَّبَرَانِيِّ في الكَبِيرِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ أَمْسِ وَالْيَوْمِ».

يُسْتَفَادُ مِنَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:

أَنَّ وَقْتَ صَلَاةِ الفَجْرِ المُسْتَحَبَّ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الفَجْرِ وَالإِسْفَارِ.

الحَدِيثُ الرَّابِعُ

قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَيُصَلِّي الصُّبْحَ، فَـيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّفَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ.

الشَّرْحُ:

قَوْلُهَا: (مُتَلَفِّفَاتٍ) بِفَاءَيْنِ في هَذِهِ الرِّوَايَةِ (مُتَلَفِّفَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ) جَمْعُ مِرْطٍ، وَهِيَ أَكْسِيَةٌ مِنْ صُوفٍ أَو خَزٍّ يُؤْتَزَرُ بِهَا.

وَفي رِوَايَةٍ للإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَيُصَلِّي الصُّبْحَ، فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الغَلَسِ ـ هَذِهِ الرِّوَايَةُ بِفَاءٍ ثُمَّ عَيْنٍ ـ.

قَوْلُهَا: (مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الغَلَسِ) كِنَايَةٌ عَنْ بَقَايَا ظَلَامِ اللَّيْلِ، فَلَا يُعْرَفْنَ أَنِسَاءٌ هُنَّ أَمْ رِجَالٌ؟

يُسْتَفَادُ مِنَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:

أَفْضَلِيَّةُ تَعْجِيلِ صَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَ التَّحَقُّقِ مِنْ وَقْتِهَا بِحَيْثُ تُؤَدَّى بِغَلَسٍ، وَهَذَا الحَدِيثُ حُجَّةٌ للشَّافِعِيَّةِ وَالمَالِكِيَّةِ، وَخَالَفَ في ذَلِكَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى، وَكَانَ يَرَى الإِسْفَارَ أَوْلَى، لِمَا وَرَدَ في الحَدِيثِ: عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأَجْرِ» رواه أبو داود.

وَفي رِوَايَةٍ للطَّبَرَانِيِّ في الكَبِيرِ: «نَوِّرُوا بِالْفَجْرِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ».

فَجُمْهُورُ الفُقَهَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّغْلِيسِ، وَالحَنَفِيَّةُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الإِسْفَارِ. هذا، والله تعالى أعلم.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُفَقِّهَنَا في الدِّينِ، وَيُعَلِّمَنَا التَّأْوِيلَ، وَيَرْزُقَنَا العَمَلَ بِمَا نَعْلَمُ. آمين.

**    **    **

تاريخ الدرس:

السبت: 30/ جمادى الأولى /1441هـ، الموافق: 25/كانون الثاني / 2020م