172ـ حفظ الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم من الخطأ (9)

172ـ حفظ الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم من الخطأ (9)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:

حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني   ***   هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا

كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ   ***    لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا

يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: أَخْطَأَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في قِصَّةِ تَأْبِيرِ النَّخْلِ، كَمَا لَا يُقَالُ: إِنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَخْطَأَ في قَوْلِهِ لِأَبِي عُبَيْدٍ: «نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ» في المَرَّةِ الثَّالِثَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ بَابِ الخَطَأِ، بَلْ مِنْ بَابِ الصَّوَابِ، وَإِرَادَةِ الإِكْرَامِ وَالإِتْحَافِ لِأُولَئِكَ النَّفَرِ، بِأَمْرٍ فِيهِ اليُمْنُ وَالبَرَكَةُ عَلَى وَجْهٍ خَارِقٍ للعَادَةِ، وَلَكِنْ تَخَلَّفَ ذَلِكَ لِوُجُودِ المَانِعِ وَالعَارِضِ.

وَنَظِيرُ هَذَا: انْقِطَاعُ مَدَدِ الإِكْرَامِ وَالبَرَكَةِ مِنْ ظَرْفِ السَّمْنِ، الذي بَارَكَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَصَرَتْهُ أُمُّ مَالِكٍ، كَمَا جَاءَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ أُمَّ مَالِكٍ الأَنْصَارِيَّةَ كَانَتْ تُهْدِي لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي عُكَّةٍ لَهَا سَمْنَاً، فَيَأْتِيهَا بَنُوهَا فَيَسْأَلُونَ الْأُدْمَ ـ وَفِي رِوَايَةٍ: فَيَسْأَلُونَ السَّمْنَ ـ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، فَتَعْمِدُ (أَيْ: تَقْصِدُ) إِلَى الظَّرْفِ الَّذِي كَانَتْ تُهْدِي فِيهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَتَجِدُ فِيهِ سَمْنَاً، فَمَا زَالَ يُقِيمُ لَهَا أُدْمَ بَيْتِهَا حَتَّى عَصَرَتْهُ (أَيْ: عَصَرَتِ الظَّرْفَ فَنَفِدَ السَّمْنُ).

فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (أَيْ: ذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ).

فَقَالَ: «عَصَرْتِيهَا؟»

قَالَتْ: نَعَمْ.

قَالَ: «لَوْ تَرَكْتِيهَا مَا زَالَ (أَيْ: السَّمْنُ) قَائِمَاً».

وروى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلَاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْتَطْعِمُهُ، فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسْقٍ مِنْ شَعِيرٍ، فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْهُ وَامْرَأَتُهُ وَضَيْفُهُمَا (أَيْ: أَضْيَافُهُمَا الذينَ يَنْزِلُونَ عِنْدَهُمَا) حَتَّى كَالَهُ (أَيْ: فَنَقُصَ).

فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ.

فَقَالَ لَهُ: «لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ (أَيْ: دَائِمَاً يَكْفِيكُمْ) وَلَقَامَ لَكُمْ (أَيْ: مُدَّةَ الحَيَاةِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ)».

فَالكَيْلُ العَارِضُ مَنَعَ المَدَدَ الفَائِضَ.

وَقَدْ بَيَّنَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ حِكْمَةَ ذَلِكَ كُلِّهِ حَيْثُ قَالَ: قَالَ العُلَمَاءُ: الحِكْمَةُ في ذَلِكَ أَنَّ عَصْرَهَا وَكَيْلَهُ، مُضَادَّةٌ لِلتَّسْلِيمِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى رِزْقِ اللهِ تَعَالَى، وَيَتَضَمَّنُ التَّدْبِيرَ، وَالْأَخْذَ بِالْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، وَتَكَلُّفِ الإِحَاطَةِ بِأَسْرَارِ حُكْمِ اللهِ تَعَالَى وَفَضْلِهِ.

فَعُوقِبَ فَاعِلُهُ بِزَوَالِهِ. اهـ. انْظُرْ شَرْحَ مُسْلِمٍ.

قَالَ الحَافِظُ الزَّرْقَانِيُّ: وَلَا يُعَارِضُ هَذَا قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ» لِأَنَّهُ فِيمَنْ يَخْشَى الخِيَانَةَ، أَو كِيلُوا مَا تُخْرِجُونَهُ للنَّفَقَةِ لِئَلَّا يَخْرُجَ أَكْثَرُ مِنَ الحَاجَةِ أَو أَقَلُّ، بِشَرْطِ بَقَاءِ البَاقِي مَجْهُولَاً، أَو كِيلُوا عِنْدَ الشِّرَاءِ، أَو عِنْدَ إِدْخَالِهِ المَنْزِلَ. اهـ.

أَمَّا قَضِيَّةُ الحُبَابِ بْنِ المُنْذِرِ يَوْمَ بَدْرٍ: فَهِيَ كَمَا رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ (انْظُرْ سِيرَةَ ابْنِ هِشَامٍ وَغَيْرِهَا) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يُبَادِرُهُمْ إلى المَاءِ، حَتَّى جَاءَ إلى مَاءٍ في بَدْرٍ، فَنَزَلَ بِهِ.

فَقَالَ الحُبَابُ بْنُ المُنْذِرِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ هَذَا مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللهُ، لَا نَتَقَدَّمُهُ، وَلَا نَتَأَخَّرُ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالحَرْبُ وَالمَكِيدَةُ؟

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالمَكِيدَةُ».

فَقَالَ الحُبَابُ: فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ، حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ فَنَنْزِلَ، ثُمَّ نُغَوِّرُ (بِالغَيْنِ المُعْجَمَةِ وَشَدِّ الوَاوِ، أَيْ: نَدْفِنُهَا وَنُذْهِبُهَا، كَمَا في شَرْحِ المَوَاهِبِ) مَا وَرَاءَهُ مِنَ الطَّلَبِ، ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضَاً فَنَمْلَؤُهَا مَاءً، فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ ـ أَيْ: المُشْرِكُونَ ـ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ».

وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ: فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: الرَّأْيُ مَا أَشَارَ بِهِ الحُبَابُ.

فَلَيْسَ في هَذَا الحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُخْطِئَاً في رَأْيِهِ، لِأَنَّ هَذِهِ الوَاقِعَةَ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ إِلْزَامِ القَضِيَّةِ أَو الْتِزَامِهَا، إِنَّمَا هِيَ مِنْ بَابِ عَرْضِ القَضِيَّةِ، لِإِبْدَاءِ رَأْيِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالخِبْرَةِ في ذَلِكَ، عَلَى عَادَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَرْضِهِ أَمْثَالَ هَذِهِ الأُمُورِ عَلى أَهْلِ الرَّأْيِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمُشَاوَرَتِهِمْ فِيهَا.

وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ أَنَّهُ رَأْيٌ رَآهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَحْسَنَهُ وَالْتَزَمَهُ، وَرَاحَ يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَيْهِ وَيُلْزِمُهُمْ بِهِ! بَلْ مِنْ بَابِ عَرْضِ القَضِيَّةِ للرَّأْيِ وَالمُشَاوَرَةِ فِيهَا.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ صَرِيحُ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للحُبَابِ: «أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ» فَكَانَ مَوْقِفُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَوْقِفَ المُسْتَشِيرِ الذي عَرَضَ القَضِيَّةَ وَلَمْ يَلْتَزِمْهَا، وَلَو أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَأَى ذَلِكَ أَو الْتَزَمَ ذَلِكَ لَحَمَلَ الصَّحَابَةَ عَلَى ذَلِكَ وَلَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 6/ جمادى الآخرة/1441هـ، الموافق: 31/ كانون الثاني / 2020م