32ـ حيطة سيدنا يعقوب عليه السلام

32ـ حيطة سيدنا يعقوب عليه السلام

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ خِلَالِ مُرَاوَدَةِ إِخْوَةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ أَبَاهُمْ مِنْ أَجْلِ إِرْسَالِ أَخِيهِمْ مَعَهُم، نَسْتَفِيدُ أَنَّهُمْ كَانُوا في حَالَةِ جُوعٍ وَضَرَّاءٍ عَظِيمَةٍ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ تَرَاجُعُ سَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ عَنْ مَوْقِفِهِ، لِأَنَّهُ في بِدَايَةِ الأَمْرِ قَالَ لَهُمْ: ﴿هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظَاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.

وَلَكِنْ عِنْدَمَا ﴿فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾. قَالَ لَهُمْ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ: ﴿لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾.

حِيْطَةُ سَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عِنْدَمَا كَانَ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ مَكْلُومَاً مِنْ نَتَائِجِ إِعْطَائِهِمْ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، فَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَحْتَاطَ لِوَلَدِهِ الثَّانِي، حَتَّى لَا تَكُونَ النَّتِيجَةُ كَالأُولَى، لِذَلِكَ أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِيثَاقَاً غَلِيظَاً، فَقَالَ لَهُمْ: ﴿لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾. طَلَبَ مِنْهُمْ قَسَمَاً عَظِيمَاً سَيَأْتُونَ بِهِ مَهْمَا كَانَتِ الظُّرُوفُ، إِلَّا أَنْ يَكُونُوا في حَالِ إِحَاطَةٍ بِهِمْ، بِحَيْثُ يُغْلَبُونَ عَلَى أَمْرِهِمْ، أَو يَكُونُونَ لَا يُطِيقُونَ فِيهَا القُدْرَةَ عَلَى المُحَافَظَةِ، وفي هَذَا الاسْتِثْنَاءِ تَرْشِيدٌ مِنَ اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ أَنْ يَتْرُكَ فُرْجَةً لِأَوْلَادِهِ ﴿إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾.

﴿فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ﴾. يَعْنِي أَقْسَمُوا بِاللهِ تعالى الأَيْمَانَ المُغَلَّظَةَ بِالمُحَافَظَةِ عَلَى أَخِيهِمْ ﴿قَالَ اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾. أَيْ: رَقِيبٌ يَعْلَمُ مَا في الصُّدُورِ، وَيَعْلَمُ النَّوَايَا، وَيَعْلَمُ إِرَادَةَ وَفَائِكُمْ.

لَقَدْ ذَكَّرَهُمْ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تعالى الحُسْنَى، وَهُوَ الرَّقِيبُ ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبَاً﴾.

لَقَدْ أَخَذَ عَلَيْهِمُ المِيثَاقَ حَتَّى يَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ، وَكَانُوا في هَذَا المَقَامِ صَادِقِينَ، لِأَنَّهُمْ طَلَبُوهُ مِنْ أَجْلِ المِيرَةِ، لَا مِنْ أَجْلِ الكَيْدِ لَهُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ بِأَنَّ سَيِّدَنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ كَانَ حَرِيصَاً وَشَفُوقَاً بِأَوْلَادِهِ جَمِيعَاً، وَلَكِنْ كَانَ حِرْصُهُ عَلَى سَيِّدِنَا يُوسُفَ وَأَخِيهِ لِصِغَرِهِمَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَرِيصَاً عَلَيْهِمْ جَمِيعَاً رَغْمَ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ في السَّابِقِ قَوْلُهُ لَهُمْ: ﴿يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾.

﴿يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ﴾

قَوْلُهُ: ﴿يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ﴾ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ خَافَ عَلَى أَوْلَادِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ عَيْنٌ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا في فَخَامَةٍ وَكَثْرَةٍ، وَقَدْ أَكْسَبَتْهُمْ مُقَابَلَتُهُمُ الأُولَى بِسَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ مَكَانَةً عِنْدَ القَوْمِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: ﴿وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ﴾. كَأَنَّهُ كَانَ يَشْعُرُ بِأَنَّهُ سَيَحْدُثُ لَهُمْ حَادِثٌ (مَا) بَعْدَ دُخُولِهِمْ مَرْكَزَ المِيرَةِ، لَكِنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَا هُوَ الحَدَثُ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ تَعَلَّمْنَا مِنْ هَذَا المَوْقِفِ أَنَّ الحَذَرَ لَا يُغْنِي مِنَ القَدَرِ، لَقَدْ قَامَ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ بِتَسْلِيمِ وَلَدِهِ الثَّانِي لَهُمْ، بَعْدَ أَخْذِهِ بِالأَسْبَابِ، وَتَوَكُّلِهِ عَلَى اللهِ تعالى، فَقَالَ: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾. أَيْ: عَلَيْهِ وَحْدَهُ تَوَكَّلْتُ، فَلَا أَتَوَكَّلُ عَلَى سِوَاهُ، وَعَلَيْهِ وَحْدَهُ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ، فَهُوَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ السَّنَدُ الحَقِيقِيُّ، وَهُوَ العِمَادُ وَحْدَهُ.

لَقَدْ قَدَّمَ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ نَفْسَهُ كَأُسْوَةٍ وَقُدْوَةٍ، أَخَذَ بِالأَسْبَابِ كُلِّهَا، وَاحْتَاطَ لِمُرَادِهِ، وَدَفَعَ أَوْلَادَهُ للسَّفَرِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾.

لَقَدْ أَعْطَى أَوْلَادَهُ دَرْسَاً عَمَلِيَّاً، بِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُمْ مَكْرُوهَاً، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُمْ شَيْئَاً قَدَّرَهُ اللهُ تعالى عَلَيْهِمْ، وَلَو كَانَ قَلِيلَاً ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾. الْحُكْمُ للهِ تعالى في كُلِّ شَيْءٍ، لَا يُنَازِعُهُ في ذَلِكَ مُنَازِعٌ، وَلَا يُدَافِعُهُ مُدَافِعٌ.

لَقَدْ أَوْصَاهُمْ بِهَذِهِ الوَصِيَّةِ، تَعْلِيمَاً لَهُمْ بِأَنَّ الاعْتِمَادَ عَلَى اللهِ تعالى، وَعَلَى تَوْفِيقِهِ وَلُطْفِهِ، مَعَ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ المُعْتَادَةِ الظَّاهِرَةِ تَأَدُّبَاً مَعَ اللهِ تعالى، لِأَنَّهُ تَبَارَكَ وتعالى هُوَ وَاضِعُ الأَسْبَابِ وَمُشَرِّعُهَا.

ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وتعالى أَنَّ الأَبْنَاءَ قَدِ امْتَثَلُوا أَمْرَ أَبِيهِمْ لَهُمْ، فَقَالَ: ﴿وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا﴾. وَالمُرَادُ بِالحَاجَةِ هُنَا ـ وَاللهُ تعالى أَعْلَمُ ـ هِيَ نَصِيحَتُهُ لِأَبْنَائِهِ أَنْ يَدْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ خَوْفَاً عَلَيْهِمْ مِنَ الحَسَدِ، لِأَنَّ العَيْنَ حَقٌّ «وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ يَسْبِقُ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ» رواه الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

وَمَعْنَى ﴿قَضَاهَا﴾: يَعْنِي أَظْهَرَهَا وَلَمْ يَسْتَطِعْ كِتْمَانَهَا، إِلَّا أَنَّهَا مَا دَفَعَتْ عَنْهُمْ قَدَرَ اللهِ تعالى، قَالَ تعالى: ﴿مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ﴾. ثُمَّ قَالَ تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

لَقَدْ شَهِدَ اللهُ تعالى لِسَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ بِأَنَّهُ ذُو عِلْمٍ عَظِيمٍ عَلَّمَهُ اللهُ تعالى إِيَّاهُ ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾. يَعْنِي لَا يَعْلَمُونَ مَا يَعْلَمُهُ سَيِّدُنَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ مِنْ أَنَّ الأَخْذَ بِالأَسْبَابِ لَا يَتَنَافَى مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ تعالى، وَأَنَّ الأَخْذَ بِالأَسْبَابِ لَا يُغْنِي عَنِ القَدَرِ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَجْعَلَنَا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِنَا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا حُسْنَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 9/ جمادى الآخرة /1441هـ، الموافق: 3/ شباط / 2020م