53ـ آداب النظر

53ـ آداب النظر

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ أَحْوَجَ مَا نَحْتَاجُهُ في هَذِهِ الأَيَّامِ أَنْ نَتَعَلَّمَ آدَابَ النَّظَرِ، لِأَنَّ البَصَرَ هُوَ البَابُ الأَكْبَرُ إلى القَلْبِ، وَأَقْوَى وَأَسْرَعُ طُرُقِ الحَوَاسِّ إِلَيْهِ، وَبِحَسَبِ ذَلِكَ كَثُرَ السُّقُوطُ مِنْ جِهَتِهِ، وَوَجَبَ التَّحْذِيرُ مِنْهُ، وَغَضُّهُ وَاجِبٌ عَنْ جَمِيعِ المُحَرَّمَاتِ، وَكُلِّ مَا يُخْشَى الفِتْنَةُ بِسَبَبِهِ.

لِذَلِكَ قَالَ تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾.

وَيَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: حِفْظُ البَصَرِ أَشَدُّ مِنْ حِفْظِ اللِّسَانِ.

وَيَقُولُ: الإِثْمُ حَزَّازُ القُلُوبِ ـ أَيْ: يَحُزُّ ـ في القُلُوبِ، وَمَا مِنْ نَظْرَةٍ إِلَّا وَللشَّيْطَانِ فِيهَا مَطْمَعٌ.

وَيَقُولُ بَعْضُ الصَّالِحِينَ: مَنْ حَفِظَ بَصَرَهُ أَوْرَثَهُ اللهُ نُورَاً في بَصِيرَتِهِ.

فَكُلُّ نَاظِرٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور﴾. وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبَاً﴾. وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى﴾.

وَرَحِمَ اللهُ القَائِلَ:

كُــــلُّ الحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنَ النَّظَرِ   ***   وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ

كَمْ نَظْرَةٍ فَتَكَتْ في قَلْبِ صَـاحِبِهَا   ***   فَـتْـــكَ السِّهَامِ بِلَا قَوْسٍ وَلَا وَتَرٍ

وَالمَرْءُ مَـا دَامَ ذَا عَـيْـنٍ يُـــــقَلِّبُهَا   ***   في أَعْيُنِ الغِيدِ مَوْقُوفٌ عَـلَى الخَطَرِ

يَسُرُّ مُـقْـلَـتَـــــــهُ مَا ضَرَّ مُهْجَتَهُ   ***   لَا مَـرْحَـبَـاً بِسُرُورٍ عَادَ بِالـضَّرَرِ

فَمِنْ آدَابِ النَّظَرِ التي يَجِبُ أَنْ نَتَعَلَّمَهَا:

أولاً: أَدَبُ النَّظَرِ إلى المَحَارِمِ:

وَالمَقْصُودُ بِالمَحَارِمِ هِيَ كُلُّ امْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، مِثْلُ الأُمِّ وَالبِنْتِ وَالأُخْتِ وَالعَمَّةِ وَالخَالَةِ، وَبِنْتِ الأَخِ وَالأُخْتِ، وَأُمِّ الزَّوْجَةِ، وَزَوْجَةِ الابْنِ، وَهَكَذَا.

فَيَجُوزُ أَنْ تَنظُرُ مِنْ ذَوَاتِ المَحَارِمِ إلى مَا يَظْهَرُ مِنْهُنَّ غَالِبَاً كَالرَّأْسِ وَالرَّقَبَةِ وَالكَفَّيْنِ وَالقَدَمَيْنِ، وَيَحْرُمُ النَّظَرُ إلى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَلَا يَلِيقُ بِالمُسْلِمِ أَنْ يَنْظُرَ إلى الصَّدْرِ وَالبَطْنِ وَالظَّهْرِ، لِأَنَّ الحَاجَةَ لَا تَدْعُو إلى ذَلِكَ، وَلَا يَلِيقُ بِأَصْحَابِ الشَّهَامَةِ وَالرُّجُولَةِ وَأَصْحَابِ العِفَّةِ أَنْ يَنْظُرُوا إلى ذَلِكَ، دَرْءَاً للفِتْنَةِ وَسَدَّاً للذَّرِيعَةِ.

كَمَا يَحْرُمُ عَلَى المَرْأَةِ أَنْ تَرَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ مِنْ أَحَدِ مَحَارِمِهَا وَإِنْ أَمِنَتِ الفِتْنَةَ.

ثانياً: آدَابُ النَّظَرِ إلى المَخْطُوبَةِ:

أَجَازَ شَرْعُنَا الحَنِيفُ للخَاطِبِ صَاحِبِ الدِّينِ وَالخُلُقِ أَنْ يَنْظُرَ إلى مَخْطُوبَتِهِ، كَمَا أَجَازَ للمَخْطُوبَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلى خَاطِبِهَا، لِأَنَّهُ أَدْعَى إلى دَوَامِ المَحَبَّةِ وَالأُلْفَةِ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ للحَدِيثِ الشَّرِيفِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا» رواه الترمذي.

وَمِنْ آدَابِ النَّظَرِ إلى المَخْطُوبَةِ:

1. أَنْ يَنْظُرَ إلى الوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ فَقَطْ بَعْدَ عَزْمِهِ عَلَى الزَّوَاجِ.

2. أَنْ يُوجَدَ مَعَهُ أَحَدُ مَحَارِمِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الخَلْوَةُ بِهَا.

3. يَجُوزُ أَنْ يُكَرِّرَ النَّظَرَ إِلَيْهَا إلى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ للضَّرُورَةِ.

4.لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهَا بَعْدَ المُوَافَقَةِ عَلَى الزَّوَاجِ مِنْهَا.

5. يَجُوزُ أَنْ تُحَدِّثَهُ وَيُحَدِّثُهَا أَثْنَاءَ الجَلْسَةِ وَالنَّظَرِ بِوُجُودِ أَحَدِ مَحَارِمِهَا وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ ذَلِكَ.

6. لَا يَجُوزُ مُصَافَحَتُهَا لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ عَنْهُ قَبْلَ إِجْرَاءِ العَقْدِ عَلَيْهَا.

ثالثاً: آدَابُ النَّظَرِ إلى الزَّوْجَةِ:

يَجُوزُ للرَّجُلِ أَنْ يَرَى مِنْ زَوْجَتِهِ كُلَّ شَيْءٍ بِشَهْوَةٍ أَو بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، للحَدِيثِ الذي يَرْوِيهِ بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ» رواه أبو داود.

وَالأَفْضَلُ في حَقِّ الزَّوْجَيْنِ أَنْ لَا يَنْظُرَ أَحَدُهُمَا إلى عَوْرَةِ صَاحِبِهِ، لِقَوْلِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: مَا نَظَرْتُ أَوْ مَا رَأَيْتُ فَرْجَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَطُّ. رواه ابن ماجه وأحمد وابن أبي شيبة والبيهقي في السنن الكبرى.

رابعاً: آدَابُ النَّظَرِ إلى المَرْأَةِ الأَجْنَبِيَّةِ:

لَا يَجُوزُ للرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلى المَرْأَةِ الأَجْنَبِيَّةِ وَلَو كَانَتْ غَيْرَ مُشْتَهَاةٍ، مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، لِأَنَّ مَنْ حَامَ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ.

وَالمَقْصُودُ بِالمَرْأَةِ الأَجْنَبِيَّةِ هِيَ كُلُّ امْرَأَةٍ يَحِلُّ للرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْهَا، كَبِنْتِ العَمِّ وَبِنْتِ العَمَّةِ وَبِنْتِ الخَالِ وَبِنْتِ الخَالَةِ، وَزَوْجَةِ الأَخِ وَزَوْجَةِ العَمِّ وَالخَالِ، بَعْدَ وَفَاةِ هَؤُلَاءِ عَنْهُنَّ أَو طَلَاقِهِنَّ، وَكَذَلِكَ أُخْتُ الزَّوْجَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، لِأَنَّهُ يَحِلُّ للرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْهُنَّ بَعْدَ طَلَاقِ زَوْجَتِهِ.

وَالرَّجُلُ الأَجْنَبِيُّ هُوَ كُلُّ رَجُلٍ يَحِلُّ للمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ مِنْهُ كَابْنِ عَمِّهَا وَعَمَّتِهَا وَخَالِهَا وَخَالَتِهَا وَزَوْجِ أُخْتِهَا وَزَوْجِ عَمَّتِهَا وَزَوْجِ خَالَتِهَا.

وَيَلْحَقُ بِالرَّجُلِ الصَّبِيُّ المُرَاهِقُ أَو المُمَيِّزُ الذي يُفَرِّقُ بَيْنَ النِّسَاءِ.

فَيَحْرُمُ النَّظَرُ إلى عَوْرَةِ المَرْأَةِ الأَجْنَبِيَّةِ ـ وَالمَرْأَةُ كُلُّهَا عَوْرَةٌ ـ وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَى المَرْأَةِ النَّظَرُ إلى عَوْرَةِ الرَّجُلِ الأَجْنَبِيِّ وَعَوْرَتُهُ مِنَ السُّرَّةِ إلى الرُّكْبَةِ، وَيَحْرُمُ مَا فَوْقَ ذَلِكَ إِذَا كَانَ بِشَهْوَةٍ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾.

وَللحَدِيثِ الشَّرِيفِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ النَّظْرَةَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومٌ، مَنْ تَرَكَهَا مَخَافَتِي أَبْدَلْتُهُ إِيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ» رواه الطَّبَرَانِيُّ وَالحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الإِسْنَادِ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئَاً أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ» رواه الإمام البخاري.

عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ مَيْمُونَةُ، فَأَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أُمِرْنَا بِالْحِجَابِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «احْتَجِبَا مِنْهُ».

فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَيْسَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُنَا وَلَا يَعْرِفُنَا؟

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا! أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ؟» رواه أبو داود.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الغَايَةُ مِنْ غَضِّ البَصَرِ هِيَ إِقَامَةُ مُجْتَمَعٍ طَاهِرٍ نَظِيفٍ، لَا تُهَاجُ في الشَّهَوَاتِ وَلَا تُسْتَثَارُ فِيهِ الغَرَائِزُ، لِأَنَّ هِيَاجَ الشَّهْوَةِ وَاسْتِثَارَةَ الغَرِيزَةِ دَمَارٌ للأَخْلَاقِ وَللقِيَمِ، وَسَبَبٌ كَبِيرٌ مِنْ أَسْبَابِ انْتِشَارِ الفَاحِشَةِ وَالرَّذِيلَةِ، التي يُرْتَكَبُ مِنْ وَرَائِهَا جَرَائِمُ القَتْلِ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى.

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حَقَّ الحَيَاءِ مِنْكَ، وَوَفِّقْنَا لِأَنْ نَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَأَنْ نَذْكُرَ المَوْتَ ذ

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الأربعاء: 5/ جمادى الأولى /1441هـ، الموافق: 1/ كانون الثاني / 2020م