2ـ الشيخ محمد نجيب سراج الدين رَحِمَهُ اللهُ تعالى

2ـ الشيخ محمد نجيب سراج الدين رَحِمَهُ اللهُ تعالى

1274/1373هـ 1857/1954م

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

إِتْمَامَاً لِمَوْضُوعِ تَرْجَمَةِ الشَّيْخِ العَلَّامَةِ مُحَمَّد نَجِيب سِرَاجِ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى رَأَيْنَا أَنْ نَذْكُرَ بَعْضَ المَوَاقِفِ المُضِيئَةِ في حَيَاةِ الشَّيْخِ عَلَى لِسَانِ ابْنِهِ الشَّيْخِ عَبْدِ اللهِ سِرَاجِ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى.

يَقُولُ الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجِ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى أَنَّ أَحَدَ دُرُوسِ وَالِدِي الشَّيْخِ مُحَمَّد نَجِيب في الجَامِعِ الأُمَوِيِّ الكَبِيرِ أَيَّامَ الصَّيْفِ اسْتَغْرَقَ سَاعَتَيْنِ وَنِصْفَ السَّاعَةِ، وَكَانَ مَوْضُوعُ بَحْثِهِ وَقْتَئِذٍ في مَحَبَّةِ اللهِ وَفِي صِفَاتِ المُحِبِّينَ للهِ تعالى وَأَحْوَالِهِمْ وَآدَابِهِمْ، وَأَنَّ المَحَبَّةَ للهِ تعالى يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فَوْقَ كُلِّ مَحَبَّةٍ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبَّاً للهِ﴾.

فَحُبُّ المُؤْمِنِينَ للهِ تعالى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الحُبُّ الأَشَدُّ، يَنْطَوِي فِيهِ العِشْقُ وَمَا هُوَ أَقْوَى مِنَ العِشْقِ، وَكَانَ وَالِدِي الشَّيْخُ نَجِيب رَحِمَهُ اللهُ تعالى يُبَيِّنُ أَنَّ عَلَامَةَ المَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ هِيَ الاتِّبَاعُ الكَامِلُ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَيَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.

ففي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ يُبَيِّنُ اللهُ تعالى لِعِبَادِهِ عَلَامَةَ مَحَبَّتِهِمُ الصَّادِقَةِ هِيَ اتِّبَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَمَا يُبَيِّنُ سُبْحَانَهُ وتعالى في هَذِهِ الآيَةِ أَنَّهُ يُحِبُّ عِبَادَهُ وَيَغْفِرُ لَهُمْ إِذَا صَدَقُوا في مَحَبَّتِهِمْ لَهُ، وَذَلِكَ بِاتِّبَاعِ حَبِيبهِ الأَكْرَمِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

وَكَمَا يَجِبُ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّبِعُوهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَيْضَاً أَنْ يُحِبُّوهُ فَوْقَ مَحَبَّتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، قَالَ اللهُ تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾.

وفي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ تَهْدِيدٌ أَكِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ لَمْ يَكُنِ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمِنْ تَقْرِيرِ الشَّيْخِ نَجِيب رَحِمَهُ اللهُ تعالى حَوْلَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾. أَنَّ فِيهَا البَيَانُ وَالإِعْلَانُ مِنَ اللهِ تعالى المَلِكِ الدَّيَّانِ، أَنَّ مَحَبَّةَ العَبْدِ لِرَبِّهِ إِنَّمَا تَكُونُ صَادِقَةً وَمَقْبُولَةً إِذَا كَانَ المُحِبُّ مُتَّبِعَاً لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا إِذَ لَمْ يَتَّبِعْ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَدَعْوَاهُ مَحَبَّةَ اللهِ هِيَ كَاذِبَةٌ مَرْدُودَةٌ، فَإِذَا تَحَقَّقَ العَبْدُ بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللهَ يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ فَيَرْفَعُهُ إلى دَرَجَةِ المَحْبُوبِيَّةِ، فَيُحِبُّهُ اللهُ تعالى.

وَمِنَ المَعْلُومِ أَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ لِعَبْدِهِ المُؤْمِنِ تَفْتَحُ لَهُ أَبْوَابَاً مِنَ الخَيْرِ الإِلَهِيِّ، وَتَمْنَحُهُ مِنَ الفَضَائِلِ وَالمَكْرُمَاتِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تعالى يُعْلِنُ مَحَبَّتَهُ لِذَلِكَ العَبْدِ في المَلَأِ الأَعْلَى وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يُحِبُّوهُ فَيُحِبُّوهُ.

ثُمَّ تَنْزِلُ المَحَبَّةُ في أَهْلِ الأَرْضِ، كَمَا قَالَ اللهُ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدَّاً﴾.

روى الإمام أحمد عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَلْتَمِسُ مَرْضَاةَ اللهِ فَلَا يَزَالُ بِذَلِكَ، فَيَقُولُ اللهُ لِجِبْرِيلَ: إِنَّ فُلَانَاً عَبْدِي يَلْتَمِسُ أَنْ يُرْضِيَنِي، أَلَا وَإِنَّ رَحْمَتِي عَلَيْهِ، فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: رَحْمَةُ اللهِ عَلَى فُلَانٍ، وَيَقُولُهَا حَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَيَقُولُهَا مَنْ حَوْلَهُمْ، حَتَّى يَقُولَهَا أَهْلُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، ثُمَّ تَهْبِطُ لَهُ إِلَى الْأَرْضِ».

وَمِنْ شَرَفِ المَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ وَفَضَائِلِهَا أَنَّ المَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ، روى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمَاً وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ؟

قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ».

وَمِنْ شَرَفِ المَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ للهِ تعالى، أَنْ تُحِبَّ للهِ تعالى، وَأَنْ تُبْغِضَ لِأَجْلِ اللهِ تعالى، روى الإمام أحمد عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَفْضَلِ الْإِيمَانِ.

قَالَ: «أَنْ تُحِبَّ للهِ، وَتُبْغِضَ للهِ، وَتُعْمِلَ لِسَانَكَ فِي ذِكْرِ اللهِ».

قَالَ: وَمَاذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «وَأَنْ تُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَتَكْرَهَ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ».

وَمِنْ شَرَفِ المَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ أَنَّهَا تُوجِبُ مَحَبَّةَ أَصْحَابِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، روى الإمام الترمذي وَابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ وَرَمَزَ الحَافِظُ السُّيُوطِيُّ في الجَامِعِ الصَّغِيرِ بِحُسْنِهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللهَ اللهَ فِي أَصْحَابِي، لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضَاً بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللهَ، وَمَنْ آذَى اللهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ».

وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ» مَعْنَاهُ: فَبِسَبَبِ حُبِّهِمْ إِيَّايَ أَحَبَّهُمْ، أَو المُرَادُ بِسَبَبِ حُبِّي إِيَّاهُمْ أَحَبَّهُمْ، أَيْ: إِنَّمَا أَحَبَّهُمْ لِحُبِّهِمْ إِيَّايَ، أَو لِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَالمَعْنَيَانِ مُتَلَازِمَانِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَـبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ» أَيْ: بِسَبَبِ بُغْضِهِ إِيَّايَ (أَبْغَضَهُمْ) يَعْنِي: إِنَّمَا أَبْغَضَهُمْ لِبُغْضِهِ إِيَّايَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَحَبَّةَ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ هِيَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ مَحَبَّتِهِ، وَحَذَّرَ وَأَنْذَرَ، وَهَدَّدَ وَأَوْعَدَ، مِنْ بُغْضِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ وَسَبِّهِمْ وَالاسْتِهَانَةِ بِهِمْ، روى الشيخان ـ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبَاً، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلَا نَصِيفَهُ».

وَفي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِهِمْ عِنْدَ اللهِ تعالى وَفَضْلِ أَعْمَالِهِمْ وَمُضَاعَفَةِ أُجُورِهِمْ وَعُلُوِّ مَقَامِهِمْ عِنْدَ اللهِ تعالى.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَأَكْرِمْنَا بِمَحَبَّتِكَ وَمَحَبَّةِ نَبِيِّكَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَحَبَّةً تُوصِلُنَا بِهَا إلى وَاسِعِ رَحْمَتِكَ وَمَرْضَاتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

رَحِمَ اللهُ تعالى الشَّيْخَ مُحَمَّد نَجِيب سِرَاج الدِّينِ وَسَائِرَ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ؛ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

تاريخ الكلمة:

الخميس: 18/ شعبان /1439هـ، الموافق: 3/ أيار / 2018م