5ـ الشيخ محمد الزرقا الكبير رَحِمَهُ اللهُ تعالى

5ـ الشيخ محمد الزرقا الكبير رَحِمَهُ اللهُ تعالى

1258/1343هـ

1842/1924م

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

هُوَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ الزَّرْقَا بْنُ الشَّيْخِ مُحَمَّد عُثْمَان بْنِ عَبْدِ القَادِرِ الزَّرْقَا، وُلِدَ عَامَ 1258هـ/1842م. في مَدِينَةِ حَلَبَ، أَقْبَلَ عَلَى العِلْمِ بِهِمَّةٍ وَصِدْقٍ، بَعْدَ أَنْ تَرَكَ عَمَلَهُ في التِّجَارَةِ، حَتَّى غَدَا شَيْخَ الشَّهْبَاءِ في الفِقْهِ الحَنَفِيِّ وَعُلُومِهِ، وَمِنْ حُسْنِ الطَّالِعِ أَنْ قَيَّضَ اللهُ تعالى لَهُ وَلَدَهُ الشَّيْخَ أَحْمَدَ الزَّرْقَا لِيَأْخُذَ عَنْهُ مَا حَوَى صَدْرُهُ مِنْ عُلُومٍ جَمَّةٍ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمِنَ التَّوْفِيقِ أَيْضَاً أَنْ هَيَّأَ اللهُ تعالى للشَّيْخِ أَحْمَدَ وَلَدَهُ مُصْطَفَى حَيْثُ وَرِثَ عَنْهُ مَا وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ الشَّيْخِ مُحَمَّد، كَمَا أَنَّ الشَّيْخَ مُصْطَفَى أَكْرَمَهُ اللهُ تعالى بِوَلَدٍ يَحْمِلُ عَنْهُ هَذَا الإِرْثَ العِلْمِيَّ الكَبِيرَ، إِنَّهُ الشَّيْخُ مُحَمَّد أَنَس الزَّرْقَا حَفِظَهُ اللهُ تعالى، رَئِيسُ أَبْحَاثِ الاقْتِصَادِ اللإِسْلَامِيِّ في جَدَّةَ.

وَقَدْ أَصَابَ أَدِيبُ الشَّامِ الشَّيْخُ علي الطَّنْطَاوِي رَحِمَهُ اللهُ تعالى عِنْدَمَا وَصَفَ هَذَا التَّوَارُثَ العِلْمِيَّ الفِقْهِيَّ في هَذِهِ الأُسْرَةِ فَقَالَ: هَذِهِ سِلْسِلَةُ الذَّهَبِ.

لَقَدْ كَانَ العَلَّامَةُ مُحَمَّدُ الزَّرْقَا مِمَّنْ بَلَغَ دَرَجَةَ الإِمَامَةِ في الفِقْهِ، وَلِذَا طُلِبَ إلى اسْتَانْبُول عَاصِمَةِ الدَّوْلَةِ العُثْمَانِيَّةِ يَوْمَ ذَاكَ، للاسْتِفَادَةِ مِنْ عِلْمِهِ وَفِقْهِهِ، فَسَافَرَ إِلَيْهَا وَبَقِيَ عِدَّةَ شُهُورٍ، غَيْرَ أَنَّ نَفْسَهُ كَانَتْ تَتُوقُ إلى حَلَبَ، فَاعْتَذَرَ عَنْ وَظَائِفِهِ هُنَاكَ، ثُمَّ عَادَ إلى دُرُوسِهِ وَطَلَّابِهِ، فَسُرَّ بِرُجُوعِهِ أَهْلُ العِلْمِ وَأَقْبَلُوا عَلَى مَجَالِسِهِ العِلْمِيَّةِ بِنَهَمٍ شَدِيدٍ.

قَالَ العَلَّامَةُ المُحَقِّقُ المُحَدِّثُ الشَّيْخُ عَبْدُ الفَتَّاحِ أَبُو غُدَّة رَحِمَهُ اللهُ تعالى: كَانَ الشَّيْخُ مُحَمَّد الزَّرْقَا فَقِيهَ النَّفْسِ وَالبَدَنِ، مُمَتَّعَاً بِمَزَايَا عِلْمِيَّةٍ نَادِرَةٍ، وَسَجَايَا خُلُقِيَّةٍ رَفِيعَةٍ، فَاقَ بِهَا أَقْرَانَهُ، فَكَانَ شُيُوخُ العِلْمِ يَقْصُدُونَ مَجْلِسَهُ وَيَحْضُرُونَ حَلَقَاتِهِ وَدُرُوسَهِ لِيَقْتَبِسُوا مِنْ عِلْمِهِ وَحَصَافَتِهِ وَذَكَائِهِ الفَرِيدِ وَفَطَانَتِهِ، فَكَانَ مَجْلِسُهُ دَائِمَاً عَامِرَاً بِالعُلَمَاءِ وَالمُسْتَفِيدِينَ مِنْ عُلَمَاءِ المَذْهَبِ، بَلْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ أَيْضَاً لِمَا يَجِدُونَ في دُرُوسِهِ مِنْ حَلِّ المُشْكِلَاتِ، وَتَذْلِيلِ المُعْضِلَاتِ، وَنَثْرِ الفَوَائدِ التي قَلَّ أَنْ تُوجَدَ في السُّطُورِ المَكْتُوبَةِ، وَكَانَتْ مَجَالِسُهُ لَا يَحْضُرُهَا إِلَّا الطَّبَقَةُ العُلْيَا مِنْ ذَوِي العِلْمِ.

أَمَّا المُؤَرِّخُ الشَّيْخُ مُحَمَّد رَاغب الطَّبَّاخ فَقَدْ وَصَفَ الشَّيْخَ مُحَمَّد الزَّرْقَا في كِتَابِهِ إِعْلَامِ النُّبَلَاءِ، فَقَالَ: الشَّيْخُ مُحَمَّد الزَّرْقَا فَقِيهُ الدِّيَارِ الحَلَبِيَّةِ، وَعَالِمُ البِلَادِ السُّورِيَّةِ، كَانَ في المَذْهَبِ الحَنَفِيِّ عَيْلَمَهُ الزَّاخِرَ، وَبَحْرَهُ الرَّائِقَ، وَسِرَاجَهُ الوَهَّاجَ، سَابَقَ الأَقْرَانَ في حَلَبَةِ الفَضْلِ، فَكَانَ السَّابِقَ وَالمُجَلِّي، وَكَانَ غَيْرُهُ السَّابِقَ وَالمُصَلِّي، مَعَ فَصَاحَةِ لِسَانٍ، تَأْخُذُ بِمَجَامِيعِ الأَلْبَابِ، وَعُذُوبَةِ بَيَانٍ، تُنْسِي المُتَيَّمَ الوَلْهَانَ حَلَاوَةِ الرُّضَابِ.

رَحِمَ اللهُ تعالى الشَّيْخَ مُحَمَّد الزَّرْقَا وَأَكْرَمَهُ بِرِفْقَةِ سَيِّدِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ.

أَخَذَ عَنْهُ الكَثِيرُ مِنَ العُلَمَاءِ، لَكِنَّ وَلَدَهُ الشَّيْخَ أَحْمَد الزَّرْقَا كَانَ لَهُ الحَظُّ الوَافِرُ في الأَخْذِ عَنْ وَالِدِهِ، رَضَعَ الفِقْهَ مِنْ أَبِيهِ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَارْتَوَى مِنْهُ في شَبَابِهِ؛ فَفَاضَ مِنْهُ في كُهُولَتِهِ وَفِي شَيْخُوخَتِهِ.

وَلَمَّا جَاوَزَ الشَّيْخُ مُحَمَّد الزَّرْقَا الخَامِسَةَ وَالسَّبْعِينَ مِنَ العُمُرِ وَأَدْرَكَهُ تَعَبُ الشَّيْخُوخَةِ، أَسْنَدَ وَظَائِفَهُ إلى ابْنِهِ الشَّيْخِ أَحْمَد، فَحَلَّ مَكَانَ أَبِيهِ في الجَامِعِ الأُمَوِيِّ، وَفي المَدْرَسَةِ الشَّعْبَانِيَّةِ، وَفِي جَامِعِ آلِ الأَمِيرِي (جَامِعِ الخَيْرِ).

تُوُفِّيَ الشَّيْخُ مُحَمَّد رَحِمَهُ اللهُ تعالى سَنَةَ 1343هـ /1924م. عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةٍ، وَقَدْ أَسِفَ الشَّيْخُ الطَّبَّاخُ لِأَنَّ الشَّيْخَ مُحَمَّد الزَّرْقَا لَمْ يَتْرُكْ شَيْئَاً مِنَ المَؤَلَّفَاتِ، لِتَتَعَرَّفَ الأَجْيَالُ اللَّاحِقَةُ عَلَى فَضْلِهِ وَعِلْمِهِ وَفِقْهِهِ كَمَا عَرَفَهَا مُعَاصِرُوهُ.

وَهَذَا أَمْرٌ عُرِفَ عَنِ العُلَمَاءِ المُتَأَخِّرِينَ، فَلَمْ يَتْرُكُوا لَنَا شَيْئَاً مِنَ المُؤَلَّفَاتِ، وَكَانٌوا يَكْتَفُونَ بِتَخْرِيجِ العُلَمَاءِ، فَهَذَا مُحَدِّثُ الشَّامِ الأَكْبَرِ الشَّيْخُ مُحَمَّد بَدْر الدِّين الحَسَنِي لَمْ يَتْرُكْ إِلَّا بَعْضَ الرَّسَائِلِ، وَهَذَا عَالِمُ حَلَبَ الكَبِيرُ المُحَدِّثُ وَالمُفَسِّرُ الشَّيْخُ نَجِيب سِرَاج الدِّين لَمْ يَتْرُكْ شَيْئَاً مِنَ المُصَنَّفَاتِ، وَمِنْ قَبْلِهِمَا العَلَّامَةُ ذُو المَعَارِفِ الوَاسِعَةِ الشَّيْخُ أَحْمَد التِّرْمَانِينِي الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى، لَمْ يَشْتَهِرْ لَهُ تَأْلِيفٌ يُذْكَرُ، وَإِنْ كَانَ فَضْلُهُمْ وَعُلُوُّ كَعْبِهِمْ في العُلُومِ وَالآدَابِ أَمْرَاً لَا يُجَادَلُ بِهِ، وَلَا يُمَارَى، وَلِكُلِّ عَصْرٍ خَصَائِصُهُ وَمَزَايَاهُ.

رَحِمَ اللهُ الشَّيْخَ مُحَمَّد الزَّرْقَا، أَوَّلُ السِّلْسِلَةِ الذَّهَبِيَّةِ مِنْ آلِ الزَّرْقَا في الفِقْهِ الحَنَفِيِّ، وَرَحِمَ اللهُ تعالى أَحْفَادَهُ العُلَمَاءَ الذينَ أَخَذُوا عَنْهُ العِلْمَ وَنَشَرُوهُ في بِقَاعِ الأَرْضِ، فَكَانُوا أَعْلَامَ تُقَىً وَهُدَىً وَرَشَادٍ.

وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 19/ ربيع الأول /1439هـ، الموافق: 7/ كانون الأول / 2017م