705ـ خطبة الجمعة: المؤمنون عُمَّار بيوت الله تعالى

705ـ خطبة الجمعة: المؤمنون عُمَّار بيوت الله تعالى

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: المَسَاجِدُ بُيُوتُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَطْهَرُ سَاحَاتِ الدُّنْيَا، وَأَنْقَى بِقَاعِ الأَرْضِ، فِيهَا تَتَآلَفُ القُلُوبُ، وَتَنْزِلُ رَحَمَاتُ الرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا، وَتَهْبِطُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَنِ، وَتَحُلُّ السَّكِينَةُ وَالخُشُوعُ.

المَسَاجِدُ أَسْوَاقُ تُجَّارِ الآخِرَةِ، هِيَ أَسْوَاقُ الآخِرَةِ، بَلْ هِيَ أَسْوَاقُ الجَنَّةِ، وَمَيَادِينُ التِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ مَعَ اللهِ تعالى، أَسْوَاقُ الأَرْوَاحِ المُؤْمِنَةِ وَالقُلُوبِ المُطْمَئِنَّةِ.

المَسَاجِدُ أَمَاكِنُ لِتَرْبِيَةِ النُّفُوسِ وَتَهْذِيبِهَا، هِيَ بُيُوتُ مَلِكِ المُلُوكِ وَمَالِكِ المُلُوكِ، المَسَاجِدُ هِيَ الرُّكْنُ الرَّكِينُ، وَالحِصْنُ الحَصِينُ، وَالأَصْلُ الأَصِيلُ في حَيَاةِ المُؤْمِنِ، لِذَلِكَ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهَا.

المَسَاجِدُ أَضَافَهَا اللهُ تعالى إلى ذَاتِهِ العَلِيَّةِ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ وَإِجْلَالٍ، قَالَ تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ القُلُوبَ التي تَعَلَّقَتْ بِالمَسَاجِدِ لَهِيَ قُلُوبٌ مِلْؤُهَا الإِيمَانُ وَالتَّقْوَى، وَحُبُ المُسَارَعَةِ إلى الخَيْرَاتِ، سَارَعَتْ إلى مَحْوِ الخَطَايَا وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، سَارَعَتْ إلى ظِلِّ اللهِ تعالى، سَارَعَتْ إلى النُّورِ التَّامِّ يَوْمَ القِيَامَةِ، سَارَعَتْ إلى الصَّلَاةِ فَانْتَظَرَتِ الصَّلَاةِ، فَلَمْ تَزَلِ المَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَصْحَابِهَا.

القُلُوبُ المُتَعَلِّقَةُ بِالمَسَاجِدِ قُلُوبٌ حَكَتْ سُنَّةَ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِهِ في الصَّلَاةِ، وَالذي كَانَ هَمُّهُ وَهُوَ يُعَانِي شِدَّةَ سَكَرَاتِ المَوْتِ الصَّلَاةَ بِالمَسْجِدِ.

روى الشيخان عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ لَهَا: أَلَا تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

قَالَتْ: بَلَى، ثَقُلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟».

قُلْنَا: لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ.

(فَأٌغْمِيَ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَكُلَّمَا أَفَاقَ، يَقُولُ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟»)

فَقُلْنَا: لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَتْ: وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ.

قَالَتْ: فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ.

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا: يَا عُمَرُ، صَلِّ بِالنَّاسِ.

قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ.

قَالَتْ: فَصَلَّى بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الْأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ، لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ وَقَالَ لَهُمَا: «أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ».

فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ قَائِمٌ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ.

المُؤْمِنُونَ عُمَّارُ بُيُوتُ اللهِ تعالى:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ للإِيمَانِ خِلَالًا، وَللمُؤْمِنِينَ خِصَالًا، أَثْنَى عَلَيْهِمْ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِهَا، فَالمُؤْمِنُونَ عُمَّارُ بُيُوتُ اللهِ تعالى، أَهْلُ ذِكْرِ اللهِ تعالى وَطَاعَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾.

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَى المُسْلِمِينَ صَلَاةُ الجَمَاعَةِ، إِذْ فِيهَا مِنَ المَصَالِحِ وَالعِبَرِ مَا لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا مَنْ أَدَّاهَا كَمَا أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَدَائِهَا، وَفِيهَا يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صَلاَةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» رواه الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

السَّيْرُ إلى المَسَاجِدِ تَكْفِيرٌ للخَطَايَا وَالذُّنُوبِ.

انْتِظَارُ الصَّلَاةِ رِبَاطٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ تعالى.

عُمَّارُ بُيُوتُ اللهِ تعالى هُمْ ضُيُوفُهُ، وَحَقٌّ عَلَى المُضِيفِ أَنْ يُكْرِمَ زُوَّارَهُ، وَلَا يَعْمُرُ بُيُوتَ اللهِ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ فِيهَا إِلَّا مَشْهُودٌ لَهُ بِالإِيمَانِ، روى الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ المَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيمَانِ»، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ﴾.

وروى أبو داود عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حَافِظُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ فَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَإِنَّ اللهَ شَرَعَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سُنَنَ الْهُدَى، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ بَيِّنُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ، وَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ مَسْجِدٌ فِي بَيْتِهِ، وَلَوْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَتَرَكْتُمْ مَسَاجِدَكُمْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَكَفَرْتُمْ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَيْنَا بَعْدَ نِعْمَةِ الإِيمَانِ، وَنِعْمَةِ الإِسْلَامِ الذي أَتَمَّهُ مَوْلَانَا وَأَكْمَلَهُ، نِعْمَةُ بُيُوتِ اللهِ تعالى، وَلَا يَعْرِفُ قَدْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ إِلَّا مَنْ فَقَدَهَا.

فَهَلُمُّوا للمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ بِتَطْهِيرِ قُلُوبِنَا وَأَبْدَانِنَا مِنْ كُلِّ وَصْفٍ وَأَمْرٍ يُبْعِدُنَا عَنِ اللهِ تعالى، لَقَدْ سَمِعْنَا المُؤَذِّنَ وَهُوَ يَقُولُ في الأَذَانِ: أَلَا صَلُّوا في رِحَالِكُمْ.

أَرْجُو اللهَ تعالى أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ صَلَّى في رَحْلِهِ صَلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ خِلَالَ مُدَّةِ الحَجْرِ، ثُمَّ عَادَ إلى بَيْتِ اللهِ تعالى مُطَهَّرًا لِيُفِيضَ اللهُ تعالى عَلَيْهِ مِنَ العِنَايَاتِ وَالتَّجَلِّيَاتِ وَالبَرَكَاتِ مَا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ تعالى.

اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا هَذِهِ النِّعْمَةَ، نِعْمَةَ السُّجُودِ في بَيْتِكَ، مَا دَامَتْ أَرْوَاحُنَا في أَجْسَادِنَا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 15/ رمضان /1441هـ، الموافق: 8/ أيار / 2020م