37ـ ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾

37ـ ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَا زَالَتِ الوَقَفَاتُ مَعَ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ تَتْرَى، وَكُلُّ مَوْقِفٍ مِنَ المَوَاقِفِ فِيهِ عِبَرٌ وَفَوَائِدُ.

بَعْدَ أَنِ اسْتَخْرَجَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ الصُّوَاعَ مِنْ رَحْلِ أَخِيهِ مُبَاشَرَةً ﴿قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾. هَذَا المَوْقِفُ أَظْهَرَ عَدَاوَتَهُمْ لِأَخِيهِمْ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، وَأَنَّهَا مَا زَالَتْ مُتَمَكِّنَةً في قُلُوبِهِمْ، هَذَا المَوْقِفُ أَيْقَظَ الحِقْدَ الدَّفِينَ، فَكَذَبُوا عَلَى سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، وَهُوَ يُخَاطِبُهُمْ، وَهُمْ في كَلَاءَتِهِ وَحِمَايَتِهِ.

وَإِنَّهُ لَمِنَ العَجِيبِ أَنْ يَفْتَرُوا عَلَى أَخِيهِمْ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ هَذَا الافْتِرَاءَ، وَهُمُ الذينَ سَرَقُوهُ مِنْ أَبِيهِ، وَأَلْقُوهُ في غَيَابَةِ الجُبِّ؛ وَلَكِنَّهُ الحِقْدُ وَالحَسَدُ لَمْ يَقْتُلْهُمَا الزَّمَانُ.

نَعَمْ لَقَدْ شَاءَ اللهُ تعالى أَنْ يُنْطِقَهُمْ جَمِيعًا بِلِسَانٍ وَاحِدٍ فَقَالُوا: ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾. وَهَذَا قَبْلَ كَشْفِ الحَقِيقَةِ لَهُمْ أَنَّ هَذَا الذي يُكَلِّمُوهُ هُوَ أَخُوهُمْ يُوسُفُ.

لَوْلَا هَذَا المَوْقِفِ لَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَو كُلُّهُمْ عِنْدَ كَشْفِ السِّتَارِ، أَنَّهُمْ نَدِمُوا عَلَى مَا حَصَلَ، وَأَنَّهُمْ حَزِنُوا عَلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ بَكَوْا عَلَيْهِ، وَلَتَنَصَّلَ الجَمِيعُ مِنَ المَوْقِفِ السَّابِقِ، وَلَكِنْ أَنْطَقَهُمُ اللهُ الذي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ حَتَّى اللَّحْظَةِ الأَخِيرَةِ قَبْلَ كَشْفِ السِّتَارِ عَمَّا حَصَلَ، فَقَالُوا بِلِسَانٍ وَاحِدٍ: ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾. فَالجَمِيعُ بِدُونِ اسْتِثْنَاءٍ مَا زَالَ الحِقْدُ في قُلُوبِهِمْ.

وَهُمْ في هَذَا الحَالِ أَسَاءُوا لِأَبِيهِمْ وَعَائِلَتِهِمْ جَمِيعًا، مَعَ أَنَّهُمْ قَالُوا في أَوَّلِ لِقَاءٍ لَهُمْ مَعَ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ أَنَّهُمْ مِنْ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، مِنْ بَيْتِ الكَمَالِ وَالجَلَالِ، وَمِنْ بَيْتِ الطُّهْرِ وَالعَفَافِ، نَعَمْ، إِنَّهُ الحِقْدُ الدَّفِينُ.

اللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنَ الحِقْدِ وَالغِلِّ وَالحَسَدِ وَالبَغْضَاءِ. آمين.

﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: المَوَاقِفُ الحَرِجَةُ تُظْهِرُ مَعَادِنَ الرِّجَالِ، الشَّدَائِدُ تُظْهِرُ طَبَائِعَ الرِّجَالِ، وَتَكْشِفُ عَنْ مَعَادِنِهِمْ، عِنْدَمَا قَالُوا: ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾. هُنَا ضَبَطَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ نَفْسَهُ، وَكَظَمَ غَيْظَهُ، وَقَابَلَ السَّيِّئَةَ بِالحَسَنَةِ، وَتَجَمَّلَ بِالصَّبْرِ، وَظَهَرَتْ أَخْلَاقُ النُّبُوَّةِ، قَالَ تعالى: ﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا المَوْقِفُ يَسْتَدْعِينَا لِاسْتِحْضَارِ قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾.

نَعَمْ، مَا أَحْوَجَنَا إلى ضَبْطِ النَّفْسِ في الشَّدَائِدِ وَالمُلِمَّاتِ؟ مَا أَحْوَجَنَا إلى ضَبْطِ اللِّسَانِ عِنْدَ الإِسَاءَاتِ، وَأَنْ لَا نُقَابِلَ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ؟ بَلْ مَا أَحْوَجَنَا إلى ضَبْطِ الحَالِ في سَاعَةِ الغَضَبِ ﴿وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ﴾؟

وَاللهِ الذي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، لَو ضَبَطْنَا أَنْفُسَنَا مَعَ نِسَائِنَا وَأَبْنَائِنَا وَإِخْوَتِنَا وَجِيرَانِنَا وَمَعَ النَّاسِ جَمِيعًا لَتَغَيَّرَتْ أَحْوَالُنَا، أَلَمْ يَقُلْ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ»؟ رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَلَمْ يَقُلْ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»؟ رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

بِاللِّسَانِ حَدَثَتِ العَدَاوَاتُ، بِاللِّسَانِ خُرِّبَتِ البِلَادُ، بِاللِّسَانِ أُشْعِلَتِ النِّيرَانِ، بِاللِّسَانِ تَمَزَّقَتِ العِبَادُ وَالبِلَادُ، بِاللِّسَانِ انْهَارَتِ القُوَى وَاسْتَسْلَمَ النَّاسُ لليَأْسِ وَالتَّشَاؤُمِ وَالقُنُوطِ.

نَعَمْ، صَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾. جَعَلَ هَذَا صِفَةً مِنْ صِفَاتِ المُتَّقِينَ.

إِخْوَةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ قَالُوا مَا قَالُوا، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الذي يَتَكَلَّمُونَ أَمَامَهُ لَيْسَ يُوسُفُ، لَا شَكَّ عِنْدَهُمْ في ذَلِكَ، وَالوَاقِعُ خِلَافُ ذَلِكَ، كَمْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَكَلَّمُ في مَجْلِسٍ مِنَ المَجَالِسِ فَيُصِيبُ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ وَهُوَ لَمْ يَتَصَوَّرْ أَنَّ الذي أَمَامَهُ هُوَ المَعْنِيُّ، وَاللهِ لَو تَأَدَّبْنَا بِآدَابِ الإِسْلَامِ لَسَلِمْنَا وَلَسَلِمَ الجَمِيعُ.

﴿وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَلُمُّوا أَنْ نَتَعَلَّمَ هَذَا الخُلُقَ مِنْ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ: ﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا﴾. مَا أَرَادَ أَنْ يَجْرَحَ مَشَاعِرَهُمْ بِقَوْلِهِ: ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا﴾. بَلْ قَالَ هَذِهِ الكَلِمَةَ سِرًّا في نَفْسِهِ.

نَعَمْ، مَا أَرَادَ أَنْ يَجْرَحَ مَشَاعِرَهُمْ بِهَذِهِ الكَلِمَةِ، مَعَ أَنَّهُمْ آذَوْهُ مِنْ قَبْلُ، بَلْ وَإلى الآنَ يَجْرَحُونَ مَشَاعِرَهُ، عِنْدَمَا قَالُوا: ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾. اتَّهَمُوهُ بِالسَّرِقَةِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَتَعَلَّمُ مِنْ مَوْقِفِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ هَذَا، كَيْفَ يَكُونُ كَظْمُ الغَيْظِ، كَيْفَ يَتَحَلَّى الإِنْسَانُ بِصِفَاتِ المُتَّقِينَ: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.

نَتَعَلَّمُ أَنَّهُ مَنْ رُزِقَ الحِلْمَ تَرَقَّى في دَرَجَاتِهِ، فَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ، وَيَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَيُحْسِنُ إلى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَـقَاءُ القَلْبِ لَيْسَ عَيْبًا، وَالتَّغَافُلُ لَيْسَ غَبَاءً، وَالتَّسَامُحُ لَيْسَ ضَعْفًا، وَالصَّمْتُ لَيْسَ انْطِوَاءً.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يُخْطِئُ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الحِلْمَ عَجْزٌ، وَأَنَّ العَفْوَ ضَعْفٌ، وَأَنَّ الإِعْرَاضَ عَنِ الجَاهِلِ خَوْفٌ وَخَوَرٌ، وَلَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ، وَهُوَ خُلُقٌ ذَمِيمٌ يَتَنَافَى مَعَ الحِلْمِ.

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا أَحْسَنَ الأَخْلَاقِ وَالأَعْمَالِ، فَإِنَّهُ لَا يَرْزُقُ أَحْسَنَهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَ الأَخْلَاقِ وَالأَعْمَالِ، فَإِنَّهُ لَا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 23/ شوال /1441هـ، الموافق: 15/ حزيران / 2020م