165ـ من الأسباب الجالبة للزرق

كلمة شهر ذي القعدة 1441

165ـ من الأسباب الجالبة للزرق

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ خَالِقُ الخَلْقِ، وَبَاسِطُ الرِّزْقِ فِتْنَةً وَابْتِلَاءً مِنْهُ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ، لِيَمِيزَ الطَّائِعَ الشَّاكِرَ مِنَ العَاصِي الجَاحِدِ.

وَمِنْ تَمَامِ فَضْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ جَعَلَ رِزْقَهُ يَسَعُ كُلَّ حَيٍّ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً، فَقَدَّرَ رِزْقَ العَبْدِ، وَكَتَبَهُ وَالعَبْدُ مَا زَالَ في بَطْنِ أُمِّهِ لَمْ يَكْتَمِلْ خَلْقُهُ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ» رواه الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَقَدْ بَيَّنَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الرِّزْقَ يَطْلُبُ صَاحِبَهُ، كَمَا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرِّزْقَ لَيَطْلُبُ الْعَبْدَ كَمَا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ» رواه ابن حبان عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَمِنْ تَمَامِ فَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا أَنْ جَعَلَ تَقْسِيمَ الأَرْزَاقِ خَفِيًّا عَنِ العِبَادِ مُغَيَّبًا عَنْهُمْ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.

وَلَكِنْ مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ بِأَنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، فَلَا بُدَّ مِنَ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ، أَسْبَابِ الرِّزْقِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ﴾.

الأَسْبَابُ الجَالِبَةُ للرِّزْقِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمَا قُلْنَا لَا بُدَّ مِنَ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ في جَلْبِ الرِّزْقِ، لَا بُدَّ مِنَ الحَرَكَةِ، لَا بُدَّ مِنَ التَّفْكِيرِ، لَا بُدَّ مِنَ السَّعْيِ، وَلَا يَجُوزُ القُعُودُ عَنْ طَلَبِ الرِّزْقِ، لِأَنَّ الطَّيْرَ لَا يَفْعَلُ هَذَا، بَلْ يَأْخُذُ بِالأَسْبَابِ، روى الحاكم عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا».

إِضَافَةً لِهَذَا أَقُولُ: لَا بُدَّ مِنْ بَعْضِ الأُمُورِ التي يَجِبُ عَلَى العَبْدِ أَنْ يَلْتَزِمَ بِهَا مَعَ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ في طَلَبِ الرِّزْقِ، مِنْهَا وَأَهَمُّهَا:

تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالتَّقَرُّبُ إِلَيْهِ بِالطَّاعَاتِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ أَرَادَ سَعَةَ الرِّزْقِ بَعْدَ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ فَعَلَيْهِ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِالطَّاعَاتِ، لِذَلِكَ أَمَرَنَا بِالتَّقْوَى بِشَكْلٍ عَامٍّ، فَقَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾. ثُمَّ بَيَّنَ تَبَارَكَ وتعالى أَنَّهُ تَكَفَّلَ لِمَنْ يَتَّقِيهِ بِأَنْ يُنْجِيَهُ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ وَضِيقٍ، وَيَرْزُقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَرْجُو وَلَا يَحْتَسِبُ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ، وَيقْنِعَهُ بِمَا رَزَقَهُ، وَيُبَارِكَ لَهُ في رِزْقِهِ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾.

وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مُرْسَلًا: لَا يَقْدِرُ رَجُلٌ عَلَى حَرَامٍ ثُمَّ يَدَعُهُ لَيْسَ بِهِ إِلا مَخَافَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلا أَبْدَلَهُ اللهُ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ذَلِكَ. كذا في كنز العمال.

وروى الإمام أحمد عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، وَأَبِي الدَّهْمَاءِ، قَالَا: كَانَا يُكْثِرَانِ السَّفَرَ نَحْوَ هَذَا الْبَيْتِ، قَالَا: أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، فَقَالَ الْبَدَوِيُّ: أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ وَقَالَ: «إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا اتِّقَاءَ اللهِ إِلَّا أَعْطَاكَ اللهُ خَيْرًا مِنْهُ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ المَشْرُوعَةِ مِنْ أَعْظَمِ الأَسْبَابِ في البَرَكِةِ في الرِّزْقِ وَسَعَتِهِ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا﴾.

وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلَّا تَفْعَلْ مَلَأْتُ يَدَيْكَ شُغْلًا وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ».

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ» رواه الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ ابْنُ قَيِّمَ الجَوْزِيَّةِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: الصَّلَاةُ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى تَحْصِيلِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَدَفْعِ مَفَاسِدِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَهِيَ مَنْهَاةٌ عَنِ الإِثْمِ، وَدَافِعَةٌ لِأَدْوَاءِ القُلُوبِ، وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنِ الجَسَدِ، وَمُنَوِّرَةٌ لِلْقَلْبِ، وَمُبَيِّضَةٌ لِلْوَجْهِ، وَمُنَشِّطَةٌ لِلْجَوَارِحِ وَالنَّفْسِ، وَجَالِبَةٌ لِلرِّزْقِ، وَدَافِعَةٌ لِلظُّلْمِ، وَنَاصِرَةٌ لِلْمَظْلُومِ، وَقَامِعَةٌ لِأَخْلَاطِ الشَّهَوَاتِ، وَحَافِظَةٌ لِلنِّعْمَةِ، وَدَافِعَةٌ لِلنِّقْمَةِ، وَمُنْزِلَةٌ لِلرَّحْمَةِ، وَكَاشِفَةٌ لِلْغُمَّةِ.

وَيَقُولُ الإِمَامُ المَنَاوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: الصَّلَاةُ مُعِينَةٌ عَلَى دَفْعِ جَمِيعِ النَّوَائِبِ بِإِعَانَةِ الخَالِقِ الذي قَصَدَ بِهَا الإِقْبَالَ عَلَيْهِ وَالتَّقَرُّبَ إِلَيْهِ فَمَنْ أَقْبَلَ بِهَا عَلَى مَوْلَاهُ حَاطَهُ وَكَفَاهُ لِإِعْرَاضِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَذَلِكَ شَأْنُ كُلِّ كَبِيرٍ في حَقِّ مَنْ أَقْبَلَ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَيْهِ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَجْعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ المُتَّقِينَ، وَأَنْ يُوَسِّعَ عَلَيْنَا في الرِّزْقِ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 1/ ذو القعدة /1441هـ، الموافق: 22/ حزيران / 2020م